عُقد أخيراً لقاء حواري عاشر ربما بين وزارة التربية واتحاد المؤسسات التربوية الخاصة ونقابة المعلمين ولجان الأهل لإيجاد حلول للأقساط المدرسية والدولار "الفريش" الذي تطالب به المدارس. والنتيجة لا تزال ملتبسة، فالوزير يهدّد بأخذ إجراءات بحق المدارس التي تطلب أقساطاً بالدولار ويصنّفها مخالفة للقانون، ويعود في التصريح نفسه ليقبل بوجود المساعدات بالدولار خارج الموازنة المدرسية، ويحذّر المدارس من صرف أي تلميذ/ة لعجز أهله عن سداد المبلغ بالدولار ويرجو إعفاء أولاد الموظفين/ات في القطاع العام والعسكر من دفع القيمة بالدولار. من جهتها، لا تقبل المدارس أي رقابة من لجنة الأهل أو تدقيق محاسبي من خبراء مستقلين على الصندوق المستقل بالدولار "الفريش" الذي يقترح اتحاد المؤسسات الخاصة استحداثه في كلّ مدرسة حيث تُجمع فيه المبالغ المحصّلة بالدولار لتذهب إلى رواتب المعلمين والنفقات التشغيلية.
وجرى تكليف مستشار وزير التربية القاضي سميح المداح بإعداد تعديل طفيف على القوانين، "لقوننة" الصندوق، والكلّ يعرف مهارات القاضي المدّاح في خدمة المدارس الخاصة حصراً.

نقطة البداية
تعاد كلّ فترة صيغة طاولة الحوار وكأن للناس ذاكرة قصيرة، ألم يكن هذا الحوار ونتائجه مشابهيْن لنتائج طاولة الحوار الأولى التي أطلقها وزير التربية السابق طارق المجذوب، وما زال تعديل المادة 2 من القانون 515 يُهرّب في كلّ مرة إلى الجلسات التشريعية من دون المرور بلجنة التربية النيابية ويقف الأهالي له بالمرصاد؟
ألم يقم كارتيل المدارس، ومن يرعاه، خلال أقلّ من عام بإقرار قوانين بالغة الخطورة على مستقبل التعليم: قانون الهوية التربوية، وقانون الـ500 مليار ومرسوم إلزامية ومجانية التعليم كهدايا من المجلس النيابي والوزارة بصياغة من القاضي المداح وبالتعاون مع الوزير؟
وللخروج من دوامة الحوارات، حيث معظم المشاركين فيها هم أنفسهم ممثلو كارتيل المدارس، فكيف نفهم مطالبة نقيب المعلمين الذي يصرّ على ضرورة دفع جزء من الراتب بالدولار، وهو مدير مدرسة ورئيس نقابة أعضاء مجلسها يتمثّل فيها كارتيل المدارس أنفسهم والأحزاب والطوائف الراعية لهم. كيف سنفهم الأمين العام للمدارس الكاثوليكية الأب يوسف نصر في كلّ اجتماع أو ظهور إعلامي يستحضر جوقته المكوّنة من بعض الأهالي ليقول بأنهم ممثلو لجان الأهل. يُستثنى من الانتماء إلى هذا الكارتيل اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور فلولاه لكان العقد بين الوزارة والكارتيل أُبرم في أول طاولة حوار.

تمرّد المدارس الخاصة
تمرّد المدارس الخاصة في عدم طاعة القوانين ليس جديداً، وللتذكير أنه بعد إقرار أول قانون يساوي بين معلمي القطاعين الرسمي والخاص، عام 1951، لم تلتزم المدارس الخاصة التي تقودها المدارس الكاثوليكية، فصدر قانون توحيد سُلم الرواتب للمعلمين في عام 1956، ولم تلتزم به في حينه أيضاً إلا بعد تسويات في قوانين أخرى (المدارس شبه المجانية)، وكذلك الأمر في عام 1978، عندما جرى تصحيح للأجور وصولاً إلى تصحيح الأجور في عام 2012.

سلفة على زيادة مرتقبة!
عندما أصدرت الحكومة في عام 2012 قرار تصحيح الأجور عمدت المدارس الكاثوليكية إلى زيادة بند غير قانوني على الموازنات المدرسية تحت مسمى" سلفة على أي زيادة مرتقبة" وتبعتها المدارس الأخرى على أساس أن الزيادات وتصحيح سلم الرتب والرواتب سيُنجزان لاحقاً وحتى لا تتراكم المتأخرات عند الاستحقاق على الأهل والمدارس تم استيفاء هذه "السلفة" بموافقة وزارة التربية ومصلحة التعليم الخاص في ذلك الحين.
ولما صدر قانون سلسلة الرتب والرواتب في عام 2017 ازدادت الأقساط المدرسية بشكل جنوني ولم تعترف المدارس بأي مبالغ متراكمة من "السلفة". اختفت أموال الأهالي التي راكموها لدفع مستحقات المعلمين والمفعول الرجعي للسلسلة ولم يقبضها المعلمون.
الصندوق المستقلّ المطروح اليوم لا يختلف كثيراً عن "السلفة"، فهو خارج الموازنة ولن يكون لأيّ مرجعية رسمية أو محاسبية السلطة في مراقبته ومراقبة الإنفاق فيه كما ينصّ القانون 515/96. ولن يعرف الأهالي والمرجعيات الأخرى إن كانت ستصل أمواله بالفريش أو غيره إلى المعلمين أم سيكون مصيرها مثل "السلفة" أو بعض الفتات.

خاسرون بالجملة
الخاسر هو من يخضع لنتائج هذا "الحوار" الملعون كل مرة، فمن سيمنع المدارس أن تطلب من المعلمين/ات دفع المتوجب عن أبنائهم لدعم الصندوق المستقل فهو خارج الموازنة وهم غير مُعفَين منه مثل الأقساط، وسيتوجب على المعلمين/ات دفعه من مقبوضاتهم بالدولار بالـ"فريش"، وبالتالي المساعدة التي قيمتها 200 أو 300 دولار ستعود للمدرسة ولن يتحسن راتبهم. من سيدفع "الفريش" عن أبناء العسكر والموظفين في القطاع العام؟ باقي الأهالي سيغطون النقص. من سيدفع عن الأطفال الذين ترعاهم وزارة الشؤون الاجتماعية وأبناء وأقرباء رجال الدين والمسؤولين الحزبيين وأبناء مفتشي الضمان ووزارة المال والمُعفين بقوة السلطة؟ باقي الأهالي طبعاً.
أما مدارس الأطراف والصغيرة حيث نسبة أبناء الموظفين/ات في القطاع الرسمي والعسكر عالية جداً تصل إلى 80% في بعضها فهم مُعفَون من "الفريش" بطلب من الوزير، وباقي الأهالي عاجزون عنه، فهذه المدارس غير معنية بالصندوق المستقل أصلاً ولن تستطيع دفع رواتب قانونية أو "فريش".
المعلمون/ات والأهالي غير المحظيين لن يكونوا قادرين على تعويض النقص وبالتالي سيغادرون وسيعمل المعلمون/ات مجاناً في المدارس، فهل يصمدون؟
كلّ الخيارات المطروحة في الاجتماع الحواري مدروسة لإسكات الأهالي، فمطالبة نقابة المعلمين للدولار "الفريش" منسّقة مع الكارتيل، فهي لا ترى سوى مخرج واحد لتدني قيمة رواتب معلميها وتحت مسمى الواقعية وكل مشترياتنا بالدولار، لم لا يكون القسط ورواتبنا بالدولار؟ لم تستذكر النقابة والمعلمون تجربتهم مع المدارس الخاصة وقضم حقوقهم، فهو نهج مستمر للمدارس منذ أكثر من 70 سنة وآخرها تأخر دفع السلسلة كاملة لأكثر من 7 سنوات؟ وماذا فعلت نقابتهم؟ والوزارة؟ والقانون؟ تبّاً للحوار، تبّاً للقانون، الكارتيل أقوى منهما ومن الوزير والوزارة والدولة، هو الدولة فاخضعوا له.

* باحث في التربية والفنون