كانت لانا تلميذة متفوّقة في الصف الأول ثانوي. لم تقبل بتصنيف ثانويتها الرسمية لها في الصف الثاني ثانوي علمي لأنّها تريد دراسة الأدب الفرنسي في المرحلة الجامعية. أصرّت على دخول الصف الثاني ثانوي أدبي رغم معارضة أساتذتها وإدارتها لذلك. كلّ محاولات ثنيها عن قرارها لم تنفع، واستندت إلى دعم أهلها مكملة مشوارها كما رسمته وهي اليوم تتابع دراسة الأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية. خيارات لانا وغيرها من التلاميذ لا يقبلها العديد من الأساتذة بسبب الحدود التي يرسمها مستقبل هذه الاختصاصات جامعياً ومهنياً، إذ يرى فيها الخبير التربوي الدكتور عدنان الأمين «حكماً مبرماً لا داعي له». يشبّه الأمين النظام المعتمد اليوم بالـ«المترو، ومن يركب في محطة لا يمكنه النزول أو تغيير وجهته حتى لو أراد ذلك». وبدلاً عن ذلك، يقول الأمين أنّه يمكن اعتماد «البوفيه» إذ «يختار التلميذ في المرحلة الثانوية ما يناسب توجهاته من مواد اختيارية مع الإبقاء على عدد من المواد الإلزامية الأساسية للحصول على الشهادة».

الاقتصاد والاجتماع
في المناهج «الحديثة» الصادرة عام 1997، استُحدث صف الاقتصاد والاجتماع. فرع جديد فلسفته كانت محاكاة العصر والتقدّم و«النموذج الاقتصادي اللبناني». لاقى الأمر معارضة واسعة من التربويين التقليديين الذين يقسّمون الاختصاصات بين علمية تطبيقية وأدبية نظرية. ولكن الحاجة إلى مواكبة الاختصاصات الجامعية القديمة والجديدة المتعلقة بعلم الاجتماع وإدارة الأعمال كانت أقوى. كانت مقاصد الدولة حينها من الفرع الدفع صوب «اقتصاد الأعمال». وكلمة اقتصاد تعني دائماً التجدّد والتغيير والسير في الدراسات ومؤشرات الأرقام الحديثة. وهذا ما لا نجد له مكاناً في فرع الاقتصاد والاجتماع. إذ إنّ الزمن توقف عام 1994، يوم أُعدّ الكتاب، بالتالي يقع على الأستاذ التدريس بناء على «الأحداث الجارية» ما يضاعف المسؤوليات الملقاة على عاتقه. أستاذة مادة الاقتصاد رنا فرحات ترى أنّ «الوضع اللبناني مساعد في خلق الأفكار التعليمية الجديدة في حال متابعة الأستاذ لكلّ المستجدات». لكن مقصّ الإلغاءات، تضيف فرحات، «كان قاسياً جداً على الفرع». قامت اللجان المعنيّة بحذف دروس من «صلب المعاناة اللبنانية» مثل «الإنتاج الزراعي»، فيما «طوابير الخبز تزداد والتلاميذ لا يتعرّفون إلى أهميّة الإنتاج».
أما مادة علم الاجتماع فهي «أقرب إلى المواد التطبيقية والتحليلية»، حسب ما تفيد منسّقة المادة في إحدى المدارس إيفا فرحات. بعد السّير في فرع «الاقتصاد والاجتماع» للهرب من المواد العلمية، تأتي مادة علم الاجتماع التي لا تطلب حفظ أي مصطلح أو تعريف، فتوقع التلاميذ في مشكلة سوء الاختيار لطبيعتها العلمية التطبيقية، فأسئلتها تتمحور حول «الاستنتاج والتبيان والتحليل». تشير فرحات إلى «صعوبة المسابقات، إذ يمكن أن تحتوي على كامل المتن التعليمي».
الانقطاع في ترتيب الأهداف بين مواد الصفوف الثانوية ينسحب أيضاً على علم الاجتماع. في الصف الثاني ثانوي يدرس التلاميذ المادة من وقائع حياتهم اليومية، أما في الصف الثالث فيرتفع مستواها إلى المفاهيم النظرية والمجرّدة. وتختم فرحات بالطلب من كلّ المتقدمين اليوم للامتحانات الرسمية بـ«التخفيف من الاعتماد على المنصات التعليمية كونها تضخ معلومات غير مدققة ولا تستند إلى خبرة تعليمية بل فقط معرفية»، وترى أنّ «الأمر يؤدي إلى ضياع لا داعي له».

الآداب والإنسانيات: اختصاص منسي
هذا الفرع كان سابقاً موئلاً للأدباء، والنجاح فيه كان مفخرة بين الناس، فيُشار إلى فلان بأنّه «معه فلسفة». ولكن بسبب نمط الاستهلاك الذي سيطر على اللبنانيين بعد انتهاء الحرب الأهلية والتوجه العام نحو التخصص العلمي فقط بات هذا الفرع منبوذاً. ولو فتشنا اليوم قليلاً عن هذا الاختصاص سنجد أنّ معظم المدارس الرسمية والخاصة لا ترى أهميّة في فتح هذا الصف من الأساس. ومن أبقى عليه جعل منه «جزيرة للمنفيين»، لا يدخل إليه إلّا من لم يجد له مكاناً في الفروع الأخرى بسبب مستواه العلمي الأكاديمي المتدني. الصف اليوم بحسب خليل، أستاذ مادة الكيمياء فيه «لا ينال حقه، والتلامذة فيه محبطون ولا يريدون التعلّم». ويردّ هذا السّلوك إلى «تصرّف الإدارات وتعاطيها معه على أنّه سلّة مهملات» متأسّفاً على التعابير التي يستعملها ولكنّه «الواقع كما هو».
عدم التناسق بين المدرسي والجامعي يظهر بوضوح في الكليات


هذا الحال لا يمكن أن يعمّم بالمطلق، فلا زال هناك بين التلاميذ من يرون فيه مقصداً لا ملجأً أو مهرباً من المواد العلمية. يدفعهم «حبّهم للآداب والفلسفة إلى طرق أبوابه» حسب أستاذة الأدب الفرنسي كارول قانصو. قانصو تتابع تلاميذها حتى في المرحلة الجامعية وتقول إنّ منهم من «يأخذ مسارات أدبية صعبة ويبرع فيها. الطالبة زينب عفيف من هؤلاء. لم يُسمح لها بالتسجيل في فرع الآداب والإنسانيات لتفوّقها في المواد العلمية، ولكن حبّها للأدب الفرنسي الذي زرعته فيه أستاذتها دفعها للتخصص فيه جامعياً. واليوم تقول عفيف: «أريد استكمال دراستي وصولاً إلى الدكتوراه، حتى النهاية». تردّ المظلومية عن هذه الاختصاصات وترفض الصورة النمطية وترى أنّ «الآداب لا دخل لها بالحفظ بل جلّها تحليل، ووجهات نظر، ولا يوجد إجابة واحدة صحيحة مثل المواد العلمية وهنا يكمن الجمال»، وتضيف: «لا يمكن لأيّ كان المتابعة في الاختصاصات الأدبية، فهي فن يشبه الرسم أو الموسيقى».

هجرة الاختصاصات الأدبية
فيما تغصّ قاعات كليّة العلوم بالمئات الذين أتوا إليها لأنّها الملاذ المفتوح دون امتحان دخول، نلاحظ أنّ مجالات العمل في السّوق اللبناني اليوم تطلب أعداداً أكبر من خريجي الاختصاصات الأدبية. فـ«تطوّر حاجات المجتمع زادت الطلب على المرشدين الاجتماعيين والمعالجين النفسيين» بحسب لينا، المعالجة النفسية المجازة. وتضيف «دخلت هذا الاختصاص على أمل العمل في مؤسسة رعائية ولكن اليوم مواعيد المراجعات في مكتبي لا تتوقف». وتختم بتوجيه نصيحة للطلاب بأن يتخلصوا من أفكار المجتمع المسبقة حول التخصصات الجامعية والتوجه إلى المكان الذي يأخذكم شغفكم إليه لا «ما يطلبه المشاهدون».
الاختصاصات الأدبية مهجورة إلى حدّ ما في الجامعة اللبنانية. في كليّة الآداب يقتصر عدد طلاب السّنة الأولى في الأدب الفرنسي مثلاً على الخمسين، ينخفض إلى عشرين في السّنة الثانية. الانخفاض لا يعود إلى رسوب بل إلى عدم توجيه أو دراية بمسار الاختصاص لدى الطلاب.
وعدم التناسق بين المدرسي والجامعي يظهر بوضوح في كليات مثل إدارة الأعمال والصحة. ففي الأولى، نسبة الطلاب الحاملين لشهادة ثانوية في فرع علوم الحياة تطغى على بقية الاختصاصات. أمّا في الصحة، فالعدد الأكبر من الطلاب هم من حملة شهادة الاقتصاد والاجتماع. هذا ما يعيدنا دائماً إلى أهميّة التوجيه العلمي والمهني، المفقود، في المدارس. إذاً لم يعد مقبولاً ترك التلاميذ هائمين تنتظرهم المفاجآت في حياتهم الأكاديمية أو لاحقاً في سوق العمل.