يخيّم طيف الجامعة اللبنانية على مشهد التعليم العالي منذ بداية العام الدراسي. فالظلم اللاحق بالأساتذة المتعاقدين بالساعة يفوق أيّ ظلم تتعرّض له باقي مكوّنات القطاع العام. الأساتذة الذين قرّروا التحرك نجحوا في انتزاع اعتراف واسع بشرعيّة التفرّغ وأحقيته. شكّلوا لجنتهم التمثيليّة في تشرين الأوّل الماضي وبدأوا إضراباً مفتوحاً حاز موافقة 866 أستاذاً من مختلف الكلّيّات والفروع، عن طريق استبيان إلكتروني. وتزامن الإضراب مع إعلان «رابطة الأساتذة المتفرّغين» التراجع عن قرارها مقاطعةً بداية العام الجامعي، ولا يزال مستمرّاً حتى الساعة.في ما يخص آلية التفرغ في الجامعة، جرت العادة أن ينتقل الأستاذ تلقائياً إلى التفرّغ بعد سنتين من التدريس التجريبي، بقرار يتخذه مجلس الجامعة. لكن، منذ عام 1997، صادر مجلس الوزراء هذه الصلاحية وبات التفرّغ يتطلب في كل مرة نضالاً مُضنياً. حصل التفرغ الأخير في تموز 2014 بعد سلسلة اعتصامات وإضرابات وصلت إلى حدّ مقاطعة الأساتذة تصحيح الامتحانات. ومنذ ذلك التاريخ، حُجب الحق بالتفرّغ عن الأساتذة.
أهميّة التفرّغ تكمن في أنّه ضرورة ملحّة لحماية دور الجامعة التنموي خصوصاً في ظلّ الانهيار الاقتصادي، وإقراره شرطٌ أساسي لاستعادة الأداء المنتظم في عمل الجامعة.
يتعمّد البعض إلصاق تهمة «عدم الإنتاجية» بالجامعة اللبنانية. وهي تهمة تُسوّقها غالباً الفئة الفكرية التي تعمل على شيطنة الدولة، وتعترض على تدخّلها في الاقتصاد ككلّ، بما في ذلك في قطاعَي التعليم والصحّة. وهي الفئة نفسها التي مهّدت للسياسات النيوليبرالية التي تفشّت في العالم منذ الثمانينيات واعتُمدت خلال التسعينيات في لبنان، ضمن موجة معادية للدولة، دمّرت الإدارات العامة في عدد من البلدان النامية. وقد تُرجمت هذه السياسات في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية في لبنان بتكريس التعاقد الوظيفي في الإدارات والتغاضي عن ملء الشواغر في الملاكات والخصخصة التي طاولت بعض القطاعات.
هذا المنحى النيوليبرالي طاول سياسات التعليم العالي أيضاً. فمنذ منتصف التسعينيات شهد لبنان ظاهرة تكاثر الجامعات الخاصة ذات الهُوية «النفعية - التجارية». وهي ظاهرة أضرّت بالإرث المؤسّساتي التربوي للتعليم العالي، الخاصّ والرسمي، الذي تعود جذوره إلى عقود طويلة. وتعمل هذه المؤسسات وفق مبادئ السوق وتسعى وراء الربح، وهدفها الوحيد استقطاب أكبر عدد ممكن من الطلاب من دون احترام معايير القبول ونوعية التعليم.
في غضون ذلك، حافظت الجامعة اللبنانيّة على قدرتها التنافسيّة في مجال التعليم العالي، وفي تقديم مستوى تعليمي ينافس ما تقدّمه أعرق الجامعات الخاصة، باعتراف التصنيفات العالمية للتعليم العالي (على سطحية المعايير المعتمدة في هذه التصنيفات). كما أحرزت الجامعة المراتب الأولى في لبنان والمنطقة العربية رغم محدوديّة تمويلها، إذ إنّ متوسّط كلفة الطالب يعادل 5 ملايين ليرة سنويّاً بحسب أرقام الموازنة العامّة، وهو رقم ضئيل جداً مقارنة بمتوسّط كلفة الطالب في أيّ من الجامعات الخاصة. وبهذه الإمكانات المتواضعة، تؤمّن الجامعة التعليم النوعي لنحو 80 ألف طالب يتمّ انتقاؤهم وفق معايير الاستحقاق والكفاءة. كلّ ذلك يُثبت الجدوى الاقتصادية لهذه الجامعة من دون أن ينفي الحاجة إلى ورشة إصلاحية شاملة لتطويرها.
وتأمين التعليم النوعي يقع على عاتق الكادر التعليمي. فعملية التعليم لا تكتمل من دون المزج بين المحاضرات والتجربة البحثية على نحو يفضي إلى صقل المعرفة العلمية لدى الطلاب وتزويدهم بالمهارات البحثية. ولا يمكن إنجاز هذه العملية بصورة فعلية ومستدامة من دون تفريغ الأساتذة وإنهاء التعاقد بالساعة. فصيغة التعاقد بالساعة لا تسمح للأساتذة بتخصيص الوقت اللازم لإتمام العملية المنشودة، وهي تتعارض مع المادة 8 من «توصية اليونسكو بشأن أوضاع المدرّسين لعام 1966».
تلعب الجامعة أدواراً تنمويّة متعددة من خلال فعّاليّة أدائها ومساهمتها في الدخل القومي وقدراتها البحثية والاستشارية. لذلك فإنّ الاستمرار في حجب التفرّغ، خصوصاً في ظلّ الانهيار الاقتصادي الشامل، ستكون له تداعيات خطيرة تؤدّي إلى التفريط بهذه الأدوار. وأبرز التداعيات السلبية ستكون خسارة الجامعة لأساتذتها واندثار ما راكمته من خبرات وقدرات منذ تحسين الرواتب في منتصف التسعينيات وحتى بداية الأزمة.

التفرّغ حاجة
تتألّف الهيئة التعليميّة في الجامعة حاليّاً من 1600 أستاذ من الداخلين في الملاك والمتفرّغين، وما يقارب 3500 أستاذ من المتعاقدين بالساعة. تتوزّع ساعات التدريس على أفراد الهيئة بما يتناقض مع المادّة 5 من قانون تنظيم عمل الجامعة، إذ تنصّ على أن يتولّى الأساتذة الداخلون في الملاك والمتفرّغون 80% من مجمل ساعات التدريس. هذا النصّ القانوني مُنتهك بشكل صارخ، إذ إنّ الأساتذة المتعاقدين يتولّون حاليّاً 80% من مجمل الساعات. أي أنّ النسبة القانونية مقلوبة رأساً على عقب! ومن المفارقات أنّ أقساماً أكاديميّة في بعض الكلّيّات والفروع مكوّنة بأكملها من أساتذة متعاقدين بالساعة. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأعباء الأكاديميّة التي يتحملها المتعاقد بالساعة لا تقلّ عن تلك التي يتحمّلها المتفرّغ. هذا الخلل قد يهدّد انتظام عمل المجالس الأكاديميّة بحسب القانون 66، لكونه شغوراً مقنَّعاً لمراكز أكاديميّة وإداريّة أساسية في الجامعة.
يمثّل الأساتذة المتعاقدون بالساعة الفئة الأكثر عرضةً لتَرْك الجامعة بما أنّها محرومة من الأمان الوظيفي. فالمتعاقدون لا يحقّ لهم الانتساب إلى «رابطة الأساتذة» وصندوق التعاضد، وهم مستثنون من كل أشكال التغطية النقابية والصحّية والاجتماعية ومن الحقوق التقاعديّة. أمّا الدخل الذي يتقاضونه فيقتصر على تحويلة ماليّة سنويّة غير منتظمة لا تتجاوز قيمتها 25 مليون ليرة. هذا الواقع يدفع بالأساتذة إلى البحث عن مصادر دَخْل أخرى فيلجأون، مرغمين في أغلب الأحيان، إلى العمل في وظائف رديفة في المجالين التربويّ وغير التربوي. هذا الواقع غير المستقرّ يولّد لدى الأساتذة شعوراً بعدم الرضا عن الذات ويؤثّر سلباً على مختلف نواحي حياتهم المادّية والنفسية والمعنوية. إضافة إلى ذلك، يشعر الأستاذ المتعاقد بعدم الاعتراف بوجوده في المؤسّسة القائمة أساساً على كاهله. ويعبّر بعض الأساتذة عن هذا الشعور من خلال وصف أنفسهم بأنهم بمثابة «أشباح» داخل الجامعة. هذا الوضع بأكمله يتناقض مع الفقرتين 46 و63 من «توصية اليونسكو بشأن أوضاع هيئات التدريس في التعليم العالي لعام 1997» التي وقّع عليها لبنان.
إقرار التفرّغ يشكل حاجة مُلحّة لتأمين انتظام العمل داخل الجامعة وتجنيب الأساتذة التداعيات السلبيّة لصيغة التعاقد بالساعة. والتمادي في إهمال البتّ بالتفرّغ وتأجيله سيدفع بالأساتذة نحو الهجرة إلى الخارج وإلى الجامعات الخاصّة المحلّيّة، بوتيرة ستتسارع في ظلّ استمرار الأزمة الاقتصاديّة. وستكون لذلك نتائج غير قابلة للعكس ولا يمكن توقّع حجمها وقياسه. عندها، سيصبح من المستحيل استقطاب هذا النوع من الكفاءات خلال العقد المقبل، بسبب تراجع مستوى الحياة في لبنان بعد الأزمة. كما أن إقرار التفرّغ الآن ستكون له منافع كثيرة مقارنةً بكلفته المقوَّمة بالليرة اللبنانية وبالتالي يمكن الاستفادة منه لتحصين الجامعة في مواجهة الأزمة.
التمادي في حَجْب التفرّغ يعكس خياراً على صعيد السياسة الاقتصادية معادياً لمشروع الدولة ولمؤسّساتها، وخصوصاً الجامعة اللبنانية، ولا يمكن اعتباره نتيجةً لـ«عراقيل» تقنية ماليّة أو غير ماليّة.
تتوزّع مسؤوليّة إنجاز التفرّغ حالياً على ثلاثة أقطاب تتمثّل بالأساتذة المتعاقدين وإدارة الجامعة ومجلس الوزراء. يتحمّل الأساتذة مسؤولية متابعة الضغط الموحّد والإصرار على أحقيّة المطلب وإقناع الرأي العامّ بضرورة صون حقوقهم والحفاظ على الكادر التعليميّ. وتعبّر عن موقف الأساتذة «اللجنة التمثيلية للأساتذة المتعاقدين» التي تضمّ ممثّلين عن الكلّيات والفروع كافة. ويُشكّل نشاط هذه اللجنة استمراراً لعمل لجان المتابعة السابقة. هذه القدرة التمثيليّة سمحت للّجنة أن تبلور موقفاً واضحاً موحّداً للمتعاقدين وأن تَثْبت عليه. وقد نجح الإضراب في تظهير الحاجة الفعلية للأساتذة المتعاقدين لتسيير أمور الجامعة بصورة طبيعية.
من المفارقات أنّ أقساماً أكاديميّة في بعض الكلّيّات والفروع مكوّنة بأكملها من أساتذة متعاقدين بالساعة


ولإدارة الجامعة دورٌ محوريّ في المرحلة الحاليّة. ففي ظلّ غياب عمداء أصيلين، يتألّف مجلس الجامعة من رئيسها ووزير الوصاية، أي وزير التربية. منذ توليه مهامّه أخيراً، يحاول الرئيس الجديد إعداد «ملفّ مُنجز» من المتوقّع أن يرفعه إلى الوزير خلال الأسابيع المقبلة. عندما يصبح هذا الملفّ في عهدة الوزير، يُتوقّع منه أن يدرسه ويوقّعه ثمّ يرفعه إلى الأمانة العامّة لمجلس الوزراء أسوةً بملفّ الملاك. عندئذ تترتّب على رئيس الحكومة مسؤوليّة التمهيد لإقرار ملفّ التفرّغ من دون تأخير، عبر تأمين التوافق على صيغته النهائية وضرورة إقراره. المسؤولية إذًا مشتركة ومتشابكة بين هذه الأطراف الثلاثة المختلفة. وإنجاز ملفّ التفرّغ رهن بوجود حسّ مسؤوليّة وطنيّة وإرادة سياسيّة وإداريّة لدى هذه الأطراف تسمح بتذليل العراقيل التي قد تطرأ وتحول دون أن يبصر التفرّغ النور.
إذا كانت الغاية المنشودة للتفرّغ تحمل في ظاهرها مصلحة الأساتذة كأفراد، فإنّها تعكس، في حقيقتها وجوهرها، خياراً حاسماً اتّخذه هؤلاء في تكريس انتمائهم إلى الجامعة على الرغم من دخول لبنان في المجهول.
أخيراً نسأل: هل سيجرؤ في المستقبل أيّ من الدكاترة الأكفاء على الالتحاق بالجامعة اللبنانية في حال التمادي في منع التفرّغ عن مستحقّيه؟ وإلى متى سيصمد الأساتذة الحاليّون؟ وهل يمكن للنخبة الحاكمة أن تتحمّل التبِعات الاجتماعيّة - البنيويّة التي ستنتج عن الإجهاز الكامل على ما تبقّى من هيكليّة التعليم العالي النوعيّ في لبنان؟

* أستاذان متعاقدان في الجامعة اللبنانية