حدّثني أستاذي د. حسين زغيب أن أستاذه د. حسن مشرفية، عميد كلية العلوم في الجامعة اللبنانية ومؤسسها، كان كلما رأى ورقة مرمية على الأرض يلتقطها ويرميها في سلة المهملات على مرأى من الطلاب، كما كان يراقب دورياً نظافة الحمامات. وأخبرني أيضاً عن تبنيه لحقوق الطلاب والموظفين والأساتذة ودعمه لنضالات أهل الجامعة. هذه الرواية كانت الدافع لي لاكتشاف من هو هذا العميد المتواضع؟ من يكون هذا المعلّم الذي كان يعدّ الجامعة اللبنانية بمثابة منزله لا مجرد مكان عمل؟ من هو هذا المربي الذي كان يدافع بشراسة عن عائلته من طلاب وموظفين وأساتذة؟حسن مشرفية أحد أعمدة الجامعة اللبنانية ومؤسس كلية العلوم، ,أستاذ الفيزياء القادم من الجامعة الأميركية في بيروت، تاركاً موقعه فيها كأستاذ متفرغ إلى الجامعة اللبنانية كأستاذ متعاقد براتب أقل، يساوي 10% مما كان يتقاضاه، إيماناً منه بضرورة التأسيس لجامعة تنهض بالوطن ومؤسساته.
وهو العميد الذي قدّم استقالته في وجه رئيس الجامعة في حينه فؤاد افرام البستاني بعد يأسه «من إمكان عمل أي إصلاح في ظل رئيس الجامعة الحالي»، كما صرّح في 14/2/1962. يومها، أعلن الطلاب الإضراب العام والشامل تضامناً مع موقفه، مطالبين برفض استقالته وبتحقيق مشاريع إصلاحية لكلية العلوم وللجامعة عموماً.
وهو الأستاذ الذي قدّم مع 85 أستاذاً في كلية العلوم استقالة جماعية (من أصل 87 أستاذاً) من أجل شراء الأرض في الشويفات وإنشاء مجمع الحدث الجامعي.
حسن مشرفية كان يتصدر كل التظاهرات والإعتصامات والإضرابات التي خاضها الطلاب والأساتذة متكاتفين من أجل حقوق كل منهم ومن أجل الجامعة الوطنية. هو من تصادم مع رجال الأمن دفاعاً عن طلابه وسجن معهم. وهو من رفض مراراً أن يُكرَّم لأن «من يقوم بواجبه لا يستحق التكريم». وما هو التكريم الذي يليق بك أيها العلم؟ تكريمك، إنما يكون بتشريفنا نحن من خلال إطلاق اسمك على كلية العلوم في مجمع الحدث «كلية حسن مشرفية».
حسن مشرفية، خطابك في حفل تكريمك وتكريم د. نزار سلهب في قصر الأونيسكو في 28/4/1965، بعد نجاح إضراب الطلاب والأساتذة وصدور مرسوم شراء الأرض من أجل بناء المدينة الجامعية، هو بمثابة الوصية لنا جميعاً: «ما تحقق اليوم يوازي 10% من المطالب والـ 90% منها ينتظر نضالكم».
أين نحن اليوم، أساتذة وموظفين وطلاباً وهيئات نقابية وطلابية، من هذه الوصية؟
حسن مشرفية، يأتي رحيلك اليوم في الذكرى الـ 67 لتأسيس الجامعة اللبنانية وأنت أبرز أعمدتها، في وقت نحن أحوج ما يكون إلى التكاتف من أجل استعادة دورها والمطالبة بقضاياها المتعددة. أحوج ما يكون إلى أن نكون موحدين في وجه السلطة التي كانت ولا تزال تهمش الجامعة منذ نشأتها. أحوج ما يكون إلى أن نكون واحداً من أجل انتزاع الحقوق التي لم تعطَ يوماً إلا بالنضال.
حسن مشرفية، عن أي حال أخبرك اليوم؟ كيف أن السلطات المتعاقبة نجحت في التدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الجامعة اللبنانية الإدارية والمالية والأكاديمية؟ كيف أن أحزاب السلطة شرذمتها عبر تفريعها وتشعيبها السياسي غير المدروس أكاديمياً؟ كيف أنها تكبر وفي موازاة ذلك تقلّص ميزانيتها يوماً بعد يوم؟ أم كيف سلّمت الهيئات النقابية والمجالس الطلابية على حد سواء قراراتها لأحزاب السلطة؟ كيف نجحت هذه الأحزاب بتقسيم الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرغين وإلغاء الانتخابات الطلابية؟ ماذا عساني أخبرك؟ كيف يكون أعضاء الهيئة التنفيذية وأعضاء مجلس الجامعة ومديرو الكليات وحتى رؤساء الأقسام موزعين على الأحزاب والطوائف والمذاهب؟ أم كيف غاب الجميع عن قضايا الجامعة ومطالبها الأكاديمية وحتى المالية، وكيف استغنوا عن حقوقهم الواحدة تلو الأخرى؟ كيف ساعدناهم أساتذة وطلابا في كل ذلك عبر عدم اتباعنا خارطة الطريق التي وضعت، وعبر تغليب الانتماءات الحزبية والفئوية على مصلحة المؤسسة الجامعة. هذه الجامعة التي لولاها ولولا جهودكم ما كنا لنصل إلى ما نحن عليه، وكلنا مسؤول عما آلت إليه أوضاعها إما عبر تواطؤ البعض مباشرة مع أحزاب السلطة وإما عبر سكوت البعض الآخر وعدم مواجهته للتدخلات السياسية.
حسن مشرفية، لن أخبرك بكل ذلك. سأخبرك فقط عن بارق الأمل الذي يلوح من خلال شعلة الوعي التي لا زالت متقدة لدى العديد من الطلاب والأندية الطلابية. وعن بعض أصوات الموظفين التي لا زالت تصدح مذكرة بأنهم جزء أساس من نسيج الجامعة. سأخبرك أن إنجازاتك، التي لا تحصى، لا زالت علماّ للعديد من الأساتذة ومن المجموعات التي تقف في وجه التدخلات السياسية والتي تعمل على محاربة الفساد واستعادة دور الجامعة. سأخبرك أننا نحفظ الوصية وأننا سنسير معاً لإكمال ما بدأت، ومعاً سنبقى للحفاظ على الإرث الذي تركت لنا.
حسن مشرفية، كل الامتنان والعرفان لعظيم ما أنجزت. ألف تحية ووردة لجميل تضحياتك وتضحيات العديد من الأساتذة والطلاب والتي أثمرت جامعة لكل الوطن.
أرقد بسلامٍ أيها العلم
*أستاذة في «كلية حسن مشرفية»
مجموعة «من أجل جامعة وطنية مستقلة ومنتجة»