هل سقطت كل القواعد المهنية التي تحكم العمل الإعلامي؟ أم أن العبارات العنصرية والطائفية التي نشاهدها على القنوات اللبنانية بنحو شبه يومي باتت أمراً طبيعياً؟ من يراقب المحطات المحلية في الأشهر الأخيرة، يلاحظ عودة الخطاب الذي ساد مع اغتيال رفيق الحريري ثمّ عاد لينحسر.
بعد عام 2005 تحوّل كل الشعب السوري إلى متّهم باغتيال رئيس الحكومة السابق. اختفى مئات العمال السوريين من لبنان، وقتل العشرات، في ظلّ تحريض مفضوح كانت بطلته شاشة «المستقبل»، ثمّ «أخبار المستقبل» (2007). لكنّ هذا الخطاب شهد تراجعاً في السنوات اللاحقة، لتعود mtv وتعطيه الزخم المطلوب، معتمدةً في نشرتها الإخبارية، وبرامجها (خصوصاً «تحقيق») على تقارير ومقابلات تحمل خطاباً ظنّ كثيرون أنه ذهب إلى غير رجعة. ولعلّ أبرز الأمثلة على ذلك، كان التقرير الشهير عن العمال الأجانب في برج حمود («الأخبار» 20 تشرين الأول 2011).
لكن ما حصل الأسبوع الماضي، بعد الجريمة الوحشية التي أدّت إلى مقتل الشابة ميريام الأشقر على يد عامل سوري ساحل علما (كسروان ــ شمالي بيروت) حوّل التغطية الإعلامية إلى حفلة جنون. إذ استنفرت أغلب المحطات اللبنانية وحوّلت الجريمة إلى وسيلة لتصفية الحسابات الطائفية والسياسية، خصوصاً أن القصة تحتمل كل عناصر التشويق والإثارة اللبنانية: ضحية مسيحية لبنانية من منطقة كسروان قتلت وهي... تصلّي، فيما القاتل مسلم سوري. أضف إلى ذلك ما تردّد من أنّه عنصر سابق في الاستخبارات السورية. هكذا، خرجت فجأة كل العنصرية الدفينة التي يختزنها قسم من اللبنانيين ضد «الغريب». عنصرية أعطاها البطريرك بشارة الراعي دفعاً إضافياً عندما طلب من الأديرة الامتناع عن الاستعانة بحراس «أجانب غير مسيحيين».
إذاً قتل أحد المجرمين الشابة اللبنانية في جريمة قد تكون الأبشع في السنوات الأخيرة، ففتحت المحطات هواءها لكل أنواع التغطيات. ولعلّ جائزة أكثر التقارير تطرّفاً تذهب من دون منازع لفيليب أبو زيد في برنامج «كلام الناس» على lbc (الخميس ما قبل الماضي). قال الصحافي الشاب في بداية تقريره إن «لبنان الحلو أصبح مسرحاً للغرباء يسرحون ويمرحون فيه من دون رادع». طبعاً إذا استثنينا التعابير «الفولكلورية» التي تخللها التقرير، يمكن ملاحظة عدد المرات التي تكرّرت فيها كلمة «غريب». ثمّ جاءت المقابلات التي أجراها أبو زيد مع عائلة ميريام لتزيد منسوب التحريض على الأجانب في لبنان. هنا استمعنا إلى عبارات تنضح بالعنصرية والاحتقار للشعب السوري كلّه: «ساحل علما باتت تحتضن عدداً كبيراً من الغرباء والأسوأ أنهم يسكنون بيننا» قالت الوالدة المفجوعة بوفاة ابنتها. وأضافت عبارات أخرى عن الحرية الممنوحة للسوريين في لبنان... ولئن كانت تصريحات الأم المفجوعة بقتل ابنتها تبدو مبرّرة في هذا الظرف تحديداً، إلا أنّ ما قاله أقرباء الشابة يعكس مرة جديدة مخزون العنصرية الدفينة عند عدد كبير من اللبنانيين. هكذا استمعنا إلى عبارات من نوع «يجي واحد سوري مش معروف قرعة بيو من وين» أو «واحد مِجوي... سوري».
إذاً بين ليلة وضحاها تحوّلت كلمة «سوري» إلى تهمة وليس إلى جنسية، حتى أن مدرّب اللياقة البدنية على قناة mtv أمين ديب اختار الإدلاء بدلوه غداة الجريمة مهاجماً العمال السوريين في لبنان «هناك لبنانيون يوظفون سوريين، رغم أنه يمكنهم استبدالهم بعمال لبنانيين بفارق مئة دولار فقط». ثم استفاض شارحاً عن الجرائم التي يرتكبها الأجانب بحق أرباب عملهم في لبنان: يقتلون ويغتصبون ويسرقون... أما «أخبار المستقبل» فاختارت جانباً آخر من القصة، لتخدم به سياسة المحطة المعادية للنظام السوري: المتّهم ملازم أول سابق في الاستخبارات السورية خدم في منطقة جديدة يابوس بين 2001 و2003 «قبل أن يسرّح من الخدمة». ولمزيد من التسييس، أخبرتنا القناة أنّ رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع اتصل بعائلة الضحية ليطمئنها إلى أنه «سيكون بالمرصاد لكل محاولات التلاعب بالتحقيق».
وسط هذا الجنون، قد يكون ما قاله المختص في الأمراض النفسية جوزيف الخوري مطلع الأسبوع على otv في برنامج «فكر مرتين» هو صوت العقل الوحيد الذي اسمتعنا إليه على التلفزيونات. قطع الخوري الطريق على كل الكلام العنصري «من ارتكب هذه الجريمة، شخص موجود في كل المجتمعات، بغض النظر عن طائفته أو أو جنسيته»، لكن هل سمعه أحد؟