لطالما تمحورت أعمال ميشال جبر حول عالم النساء، بدءاً بـ«بيت برناردا ألبا» مروراً بـ«هي في غياب الحب والموت» وصولاً إلى «ستربتيز». اليوم، يعود المسرحي اللبناني إلى الخشبة، كاتباً ومخرجاً وممثلاً، ليتكلم عن المرأة في دور المدرك لأسرار النساء. ويتوقّف خصوصاً عند المرأة المتسلّطة، متخذاً من هذا الموضوع ذريعة لخوض تجربة مونودراميّة، يصنّفها بـ«الكوميديا التهكّميّة اللاذعة».
منذ البداية، يخبرنا جبر أنّ عرضه لا علاقة له بالتحشيش، لكنّه استعمل عنوان «بلا تحشيش» لجذب الجمهور الى المسرح. هل هذه الخدعة الوحيدة التي ينطوي عليها العرض؟ بذكاءٍ، يستبدل الفنان بالحشيش ما هو أكثر إغراء، ألا وهو السخرية من المرأة والحديث عن الجنس. لكن ذلك ليس سوى الجزء الظاهر من «خدعته الأكبر».
يقصد الجمهور المسرح كي يعيش تجربة دراميّة، بالمعنى الإغريقيّ لكلمة دراما كفعل يأخذ الإنسان إلى استكشاف معنى الوجود وأسئلته الكبرى. أما جبر، فيعكس الآليّة ومنطق العلاقة تماماً. في «بلا تحشيش» التي تتواصل عروضها على مسرح «بيريت»، لا أسئلة وجوديّة، ولا قلق إنسانياً، بل مواجهة للواقع بسيل من الصور النمطيّة التي تعكس نظام القيم السائدة. هذا يمكن أن يقال عن زاوية النظر، واللغة المشهديّة من أداء وسواه، والنصّ الذي يذكّر من بعيد بمسرحيّة قصيرة لأنطون تشيخوف بعنوان «عن مضار التبغ» (الأمر الذي لم يشر إليه جبر في أي مكان). هذا العنصر الأخير ـــ أي النص ـــ يحتل الموقع الأهمّ في التجربة، إذ لم يعطِ جبر أهميّة للسينوغرافيا والإخراج وتحرّك الممثل على الخشبة وتركيب شخصيات معقدة.
يصعد «الدكتور فدعوس» (ميشال جبر) إلى الخشبة ليقدّم لنا محاضرة عن مضار التدخين، استجابة لطلب امرأته المتسلطة. لكنّه لن يحكي عن التدخين. سيحدّثنا عن علاقته بزوجته المسخ. يروي بعض التفاصيل الخاصة بعلاقتهما، والأحداث المنزلية، مستعيناً بجميع الصور النمطيّة للنكات المتداولة في المجتمع اللبنانيّ التي تظهر الرجل في موقع المعنَّف من المرأة. لكن المخرج يذهب بفكرة تشيخوف إلى موقعها النقيض، فلا يترك مسافة نقديّة بينه وبين هذه النظرة الاختزالية إلى علاقة الرجل (المقموع) والمرأة (القامعة)، وهي مناقضة تماماً لواقع خاضع للقيم الذكوريّة ولسلطة الرجل. لا تسعى الكوميديا «اللاذعة» هنا إلى تفكيك الخطاب المتداول في مجتمعات ذكورية كلبنان، بل تبدو كأنّها تتبنّاه عبر استدراجنا الى الضحك السهل. يقلب جبر المعادلة، تاركاً للرجل أخذ دور الضحية كما في النكات الشعبية، كغطاءٍ لدوره الحقيقيّ في البنى القمعيّة. هل ننسى أن الأغلبيّة الذكوريّة السياسيّة/ الطوائفيّة في لبنان، ترفض إقرار قانون يحمي المرأة من العنف الأسريّ؟
يراهن جبر على الضحك السهل إذاً، ثم يصعّد فيبدأ باللعب التابوهات الجنسية. يسترسل في قصة علاقة زوجته باسم عائلته «المقيّر» الذي رفضت أن تحمله. «ينوّر» الجمهور حول الأصول اللغوية العربية لمعنى كلمة «القير» وارتباطها بالزفت، واللغط الاجتماعي المرافق لها. ويندفع إلى مناداة الجمهور واحداً واحداً بالـ«مقير». هل هي تقنيّة مسرحيّة لإحداث الصدمة عند المتلقّي بهدف دفعه الى تفاعل أعمق والنظر إلى خلفيّة الواقع المباشر؟ هل يستفز جبر الجمهور، عبر رفض المرأة أن تحمل عبء الذكورة المتمثل في اسم عائلة الرجل وصفته؟ كلا للأسف. المونودراما الكوميديّة لا تذهب بعيداً إلى هذا الحدّ، بل تعبّر عن خطاب ذكوري مكتف بذاته، يضحك من الواقع لتفريغ مشاعر النقمة وحماية منظومة القيم المهيمنة. يأخذنا الدكتور في محاضرته إلى الحديث عن النسويّات اللواتي يرفضن ممارسة الجنس، وهمّهنّ الوحيد أخذ المال من الرجل. يتوقف عند هذا المثال، ويبالغ في تضخيم التوصيف الخاطئ والرجعيّ للنسوية. لكنه لا ينجح سوى في إثارة ضحك بعض الرجال. العرض عموماً تراكم من الصور النمطيّة، التي تحيل إلى أبشع تمثّلات المرأة في الخطاب الذكوري. ميشال جبر يلعب بالنار لحقن الكوميديا بشحنات صادمة. لكنّ السحر ينقلب على الساحر، عند تلك المطبّات الخطرة، إذ إن الكليشهات تغلبه بدلاً من أن يفضحها. تصبح هي الخطاب الفكري للعمل...
تعليقاً على احدى الجمل الأخيرة التي يقولها الدكتور فدعوس في محاضرته العتيدة «قديش ع بالي إتعرّف ع حدا جديد»، تصرخ إحدى المشاهِدات في الصالة: «إيه قول هيك من الأول!». ترى ما مشكلة الدكتور (ميشال خبر) مع النساء؟

«بلا تحشيش» : 8:30 مساء من الخميس إلى الأحد ــــ مبنى العلوم الانسانية، «جامعة القديس يوسف» (طريق الشام، بيروت). للاستعلام: 01/611642



إضاءة، سينوغرافيا، إلخ.

إذا استثنينا ميشال جبر ونصّه على خشبة «بيريت»، لا يمكن الحديث عن عناصر مشهديّة تستحق التوقّف عندها. لعبة الإضاءة لم تضف شيئاً إلى العرض، وكان يمكن الاستعاضة عنها بضوء ثابت مسلّط على المسرح. الاسراف في تصميم الإضاءة (هاغوب ديريغوسيان) يوهم بلعبة مسرحيّة، في حين أن العلاقة الدرامية غير موجودة مع جوهر العمل. الأمر نفسه ينطبق على السينوغرافيا (كريستيان أسمر) التي لا تقيم أي علاقة ديناميّة مع العمل، بل تقتصر على دمية كبيرة وبعض القماش المتناثر على المسرح. لن نطيل الحديث عن السينوغرافيا والإخراج والتمثيل، فقد قطع جبر علينا الطريق، إذ خصص دقائق عدّة من عرضه للسخرية من النقاد الذين سوف يتناولون هذه العناصر المسرحيّة. لا ضرورة أصلاً لذلك، بما أنها شبه غائبة أو مستعملة في غير مكانها.