على مقربة من سوق الأحد الشعبي ومصانع الخشب والحديد، تتفتّح فضاءات من نوع آخر. الحي الشهير برسوم الغرافيتي، كان مرتعاً لتجار الممنوعات ولحياة «أندرغراوند» صاخبة على هامش المدينة. قبل عامين، افتتح «مركز بيروت للفنّ» أبوابه في الجوار... وإذا بالحي الصناعي يصير مقصداً لهواة الفنون المعاصرة في العاصمة. اليوم جاء دور فضاء «أشغال داخلية»، ليزرع مضاربه في هذا الحيّ على تخوم بيروت.
المبنى العتيق الذي اختارته جمعية «أشكال ألوان» لبناء أكاديميتها، كان مصنعاً للخشب في الخمسينيات. خلال السنتين الماضيتين، وبدعم من «مؤسسة فورد»، و«مؤسسة فيليب جابر» مالكة المبنى، عملت الجمعية المعنية بالفنون المعاصرة على تحويله إلى فضاء متعدد الانشغالات: أكاديمية، مكتبة، صالاتان للمحاضرات، غرفة مونتاج، وصالة للعروض الأدائية...
المساحة المركزيّة التي يتمحور حولها الفضاء، هي قاعة العرض الواسعة. في إحدى زواياها غرف زجاجية، تدير إملي جاسر داخل إحداها جلسة نقاش مع طلاب الأكاديمية، بمحاذاة مشغل للنحت والرسم. هنا، انطلقت أخيراً صفوف «أكاديمية أشغال داخلية» ضمن برنامج تشرف عليه الفنّانة الفلسطينيّة المعروفة، والأستاذة الزائرة لهذا العام. اختارت توزيع المنهاج بين محاضرات نظرية، وورش عمل، وجولات ميدانية في استديوهات فنانين زائرين. «سيركّز البرنامج على مواضيع نظريّة أبرزها الثورات العربية، وإرث ما بعد الاستعمار، وتاريخ السينما وفنون التواصل»، تقول جاسر. وتضيف: «سنركز أيضاً على ضرورة التفاعل بين مختلف الممارسات الفنيّة. هاجسنا العمل من قلب المدينة (بيروت) بوصفها سياقاً لمشاريع الطلاب التي ستُنجز في ختام الصفوف».
المنهاج أشبه بورشة عمل متواصلة، يشرف عليها إلى جانب جاسر، أساتذة من مشارب مختلفة معظمهم فنانون مكرسون في ميدان الفنون المعاصرة منهم الإيراني كمران راستيغار، والمصري حسن خان، واللبنانيون أكرم زعتري، وميران أرسانيوس، وطوني شكر، ولينا الصانع.
الأكاديمية جزء من مشروع أوسع، جديد بطموحاته على المنطقة العربيّة التي استقطبت خلال العقد الماضي «ممارسات جديّة في الفنون المعاصرة، خصوصاً لبنان وفلسطين ومصر»، تقول مديرة جمعية «أشكال ألوان» كريستين طعمة. الهدف زرع ممارسات الفنون المعاصرة في قلب حياة المدينة، وجعلها وسيلةً للتفاعل بين الفنانين والمجتمع المدني والجمعيات الأهلية. هذه الوظيفة تحديداً ألهمت المعمار يوسف طعمة الذي وقّع تصميماً فريداً للفضاء. قاعة العرض الكبيرة مثلاً، اختار فرشها ببلاط من النوع الذي تُعبّد به الأرصفة. «أردنا أن ندخل روح الشارع إلى المكان للتأكيد أنّ هذا الفضاء عام ليس منغلقاً على الخارج، بل في حالة تفاعل مع المدينة ومحيطه»، تقول كريستين. «الأعمدة كانت مليئة بأغراض «كيتش» علّقها عمّال المصنع خلال الحرب، منها صور بورنو، وأخرى لممثلات، وأيقونات دينية، أو زعماء ميليشيات»، تخبرنا. «بعد نقاش حول علاقة هذه الأغراض بذاكرتنا، وبذاكرة الحرب، قررنا استبدالها بغلاف حديدي مخرّم يلفّ الأعمدة. أردنا إعلان القطيعة مع تلك المرحلة، وإعطاء تعريف جديد للمكان، يناسب احتياجات الطلاب والفنانين».
اللافت في تصميم طعمة أنّه أغنى المكان بتفاصيل عمليّة، معطياً الأولوية لطابع الفضاء الوظيفي، بوصفه مشغلاً، ومحترفاً، ومكاناً عاماً سيكون مفتوحاً للتفكير واللقاء مع المجتمع الأهلي. السقف مجهز بحدائد قابلة لتعلّق عليها تجهيزات وأعمال فنية، والأعمدة كذلك. الإضاءة قابلة للتعديل. المكان من دون لون تقريباً ليكون جاهزاً للقولبة وفق رغبات الفنانين. هنا، صالة للرقص، خالية من المقاعد، تصلح لمختلف العروض الأدائية. بجانبها قاعتان للمحاضرات، ستستضيفان صفوفاً ليلية في المونتاج، وكتابة السيناريو، وتنظيم المعارض. أهمية الفضاء الذي يفتتح للجمهور في 26 ت2 (نوفمبر) المقبل، تكمن في كونه يقترح نفسه فضاء عاماً في المدينة، سيتفاعل مع سكانها وفنانيها. وأهميته أيضاً أنّه من الأماكن النادرة في العالم العربي التي تمنح للعاملين في الفن المعاصر أدوات للتعاطي مع أشكال ابتكاراتهم المختلفة، من موسيقى، وفيديو، وتجهيزات، ورقص، وأداء. «باختصار، إنه مكان معدّ للخلق وللتفكير في أدوات الفن وهواجسه»، تقول طعمة.
وكالعادة في هذه الحالات، التحوّل الاجتماعي للحيّ فتح شهيّة المستثمرين... «فضاء أشغال داخلية» بدأ يظهر أثره على المحيط: في الجوار، يشيد أحد أشهر المعماريين في لبنان أبنية ضخمة. الحي الصناعي الهامشي بدأ يجذب عشاق الفنون والجمعيات الأهلية. «هذه قاعدة عامة»، تقول طعمة وهي تطلّ من مكتبها على مصنع سيارات مجاور، «أينما ذهب الفنانون، يتبعهم الجميع». على أمل ألا تبتلع الرساميل الزاحفة هذه الواحة الجميلة...



تحت مظلّة إملي جاسر

طلاب الأكاديمية التي قرّرت برامجها هذا العام إملي جاسر، اختيروا من بين مئات المرشّحين. محمد عبد الكريم (مصر)، نور أبو عرفة (فلسطين)، الزميل روي ديب (لبنان)، سارة فرحات (مصر/ الولايات المتحدة)، ماريا إيلينا فانتوني (إيطاليا)، رافاييل فلورييه (فرنسا)، سمر كنفاني فلسطين، محمود خالد (مصر)، صَبا عنّاب (الأردن)، جو نامي (لبنان/ الولايات المتحدة)، هاييغ بابازيان (لبنان)، إدوار سالم (فلسطين/ الولايات المتحدة)، تمارا السامرائي (الكويت/ لبنان)، مهند يعقوبي (فلسطين). إلى جانب الحصص والمحترفات التي يتابعونها، يعمل كلّ منهم على مشروع فني خاص، «ذاتي ومتحرر من تأثيرات الأساتذة»، كما تطمح جاسر.. علماً بأنّ معظم المشاركين بدأوا يشقّون طريقهم بخطى واثقة في عالم الفنون المعاصرة، من فيديو وتجهيز وتصوير ورسم...

لقد تم تعديل هذا النّص عن نسخته الأصليّة المنشورة بتاريخ 25 تشرين الأوّل 2011