تحتفي بيروت بالذكرى المئوية الأولى لرحيل يوسف المَنيلاوي (1847 ؟ ـــ 1911) أحد كبار مطربي عصر النهضة في مصر. ويعود الفضل في هذه المبادرة إلى «مؤسّسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية» التي انطلقت قبل عامين وبشّرتنا بإحياء كنوز التراث الموسيقي العربي. هذا المشروع الثقافي والحضاري الطموح يتمثّل في البحث عن الموروث الموسيقي، ثم حفظه ونشره في المجتمع ووضعه بتصرّف الباحثين.
بدأت المغامرة حين اشترى هاوي الموسيقى كمال قصّار مجموعة من التسجيلات العربية القديمة التي توثِّق جزءاً كبيراً من نتاج عصر النهضة. وكانت الخطوة الأولى للمؤسّسة تنظيم أمسية طربية للفنّان المغربي فؤاد زبادي (صدر تسجيل الحفلة في أسطوانة). أما الخطوة الحاليّة فيمكن عدّها أول انجاز حقيقي للمشروع، وهي ثمرة عمل دؤوب استغرق أكثر من سنة. وقد لا تكفي هذه العجالة كي نستعيد بالتفصيل آلية العمل التي اتبعها فريق عمل المؤسسة (من باحثين وتقنيّين) لبلوغ النتيجة المذهلة التي سنكتشفها الليلة خلال أمسيةٍ طربية خاصّة في بيروت (قاعة «بيار أبو خاطر».). جمعت المؤسّسة تسجيلات المنيلاوي، وأصدرتها مرفقة بكتاب تاريخيّ وتوثيقي وتحليليّ، عن «دار الساقي»، شارك في اعداده كلّ من فريدريك لاغرانج ومحسن صوة ومصطفى سعيد. وتتجلّى أهميّة العمل المنجز أيضاً في القالب الخارجي الباذخ والأنيق (علبة أنيقة تحوي كتابيْن وعشر أسطوانات) الذي يليق بعملاق مثل المَنيلاوي.
بين يدينا اليوم المنتَج النهائي، لكن الدرب الشاقة الذي سلكها القيمون على المشروع لبلوغ هذه النتيجة تشمل الخطوات التالية: أولاً، البحث عن جميع تسجيلات المنيلاوي الأصلية. ثانياً، محاولة الحصول على أكثر من نسخة لكل تسجيل، لعلّ إحداها قد حُفِظت بطريقة أفضل، فحافظت على صوتٍ أنقى. ثالثاً، نقل المادة الصوتية من الأسطوانة إلى الأجهزة الحديثة (بمعنى تحويلها رقميّاً Digitalisation)، لحفظها بعيداً عن العوامل المسببة للتلف، ثمّ لمعالجتها ببرامج الصوت، أي تنقيَتها من «الخشخشة» وتعديل سرعتها لتصبح «طبيعية».
المرحلة الثالثة تتطلب اختيار الإبرة الأنسب لكل أسطوانة، لاستخراج أكبر قدْر من المادة الصوتية. كذلك، تتطلب معالجة «الخشخشة» دقة متناهية، أي أن «تنظيف» الصوت من الشوائب يجب أن يقف عند حدود المسّ بالمادة الموسيقية. بعد ذلك، توصل الأجزاء لتصبح كلاً متصلاً. إذ إن معظم الأعمال كانت تزيد مدتها على سعة الوجه الواحد للأسطوانة آنذاك (بين 3 و4 دقائق). إلى كل هذا، تضاف تفاصيل كثيرة احتضنها المحترف الذي بناه كمال قصّار في حديقة منزله، حيث كنوز الموسيقى محفوظة بأيادٍ أمينة.
تختلف المصادر حول مكان وتاريخ ولادة يوسف خفاجة المنيلاوي. وبحسب أحد أحفاده، هو مولود سنة 1847. حفظ القرآن ودرس التجويد والإنشاد الديني. ثم انتقل إلى الغناء الدنيَوي إلى جانب عمله في تجارة القصدير التي كانت تدرّ عليه المال. مع العلم أنّ موهبته الفنية وقدراته الصوتية جعلت منه المطرب الأغلى ثمناً بين زملائه. عام 1905، بدأ تسجيل الأسطوانات بعد مجيء أكثر من شركة أوروبية إلى مصر (منذ 1903)، وترك العديد من التسجيلات في معظم الأشكال الغنائية التي كانت رائجة آنذاك. رحل المنيلاوي قبل قرن. وللمناسبة، تحيي «مؤسّسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية» ذكراه عبر إعادة إصدار تسجيلاته وكتابٍ قيّمٍ عن عصره وفنّه. إضافة إلى أمسية طربية يحييها غناءً كلّ من مصطفى سعيد (غناء)، فدوى المالكي (المغرب) وإيهاب يونس (مصر) ترافقهم مجموعة «أصيل» المتخصصة بالموسيقى العربية التقليدية.

أمسية مع المنيلاوي: 8:30 الليلة ـــ قاعة «بيار أبو خاطر»، الجامعة اليسوعية، (طريق الشام/ بيروت). للاستعلام: 953 281/ 05