عالميّة
كانت ناديا تويني تتحسّر لضعف تمكّنها من العربيّة، وكان جورج شحادة يتحسّر علينا، نحن الكتّاب بالعربيّة، ويعتبرنا هالكين. وخرج سعيد عقل من المأزق عبر اعتماد العاميّة بالحرف اللاتيني فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار.
مأزقان: الأوّل عرب الفرنسيّة لأنّهم حُرموا القارئ العربي ولم يربحوا القارئ الفرنسي. مصيرٌ مؤلم، شدّ ما تألّم منه شعراء موهوبون مثل فؤاد أبو زيد وفؤاد غبريال نفّاع. والمأزق الثاني هو الانغلاق داخل العربيّة وحرمان الوصول إلى قرّاء المدى الأوسع.
هذا الحرمان يطاول الشعراء و«أدباء اللغة» عموماً أكثر ممّا يصيب أهل القصّة، فالترجمة تخون الشعر، كما هو معروف، دائماً وأبداً، خيانة شبه تامّة، وتخون الرواية والقصّة والمسرحيّة غالب الأحيان خيانةً مقبولة، وبعض الأحيان تؤدّي خدمةً للأصل، حيث التغريب يضيف بُعداً أكثر جاذبيّة.
هذا ما تفعله، مثلاً، دار «آكت سود» الفرنسيّة بنقلها قصص العديد من الأدباء المصريّين والسوريّين واللبنانيّين إلى الفرنسيّة.
هل هذه هي العالميّة؟ لا، ولكن الباب انفتح على قارئ كان مستحيلاً. هذا كلّ شيء. أمّا العالميّة فأساسها شرطان: البُعد الإنساني و«إضافة شيء». هذه الإضافة يعتقد البعض أنّها النكهة الإكزوتيكيّة، ما يجهله الغربي عن عاداتنا وطقوسنا. وهي ليست كذلك. الإضافة إضافة إلى الوجدان الإنساني العام لا إلى معارف الأكاديميّين والسيّاح.
هل نحن «محرومون» من العالميّة أم أننا «لسنا» عالميّين؟
وهل نتوصّل إلى أن نعني للقارئ العالمي شيئاً بدون الحريّة؟


صحافة

استوقفني زميل مستاءً:
ـــ هل تظنّ ما زال عندنا صحافة حرّة؟
ـــ لا أظنّ.
ـــ ولماذا تكتب؟
ـــ لا أعرف كاراً آخر.
ـــ وكيف تكتب وأنت غير حرّ؟
ـــ لا أكتب كلّ ما أريد، لكنّي لا أنشر إلّا ما أنا مقتنع به.
أنهينا هذا الحوار غير المتكافئ، لا هو مرتاح ولا أنا.
يعكس هذا الأخ تفكير القاصي والداني. أمّا أنا فأعكس حالةَ المستسلم، مع حفظ بعض ماء الوجه.
نقص الحريّة ليس داء الصحافة وحدها، فالصحافة امتداد لواقع شامل. وفي بعض الظروف ـــــ ليست كلّها نزيهة ـــــ تبدو الصحافة أكثر «تحرّراً» من مجتمعها، بالأخصّ عندما تنحاز مُكرهة أو لأغراض تعصبيّة أو مأجورة. هذا الحيّز من «التحرّر» (وأكثره بمعنى التطرّف والاستثارة) تأخذه الصحافة على حساب ما ندعوه «الرأي العام».
المشكلة أقدم وأعمق. أطوار الازدهار التي عرفها العرب كانت في عهود التجرّؤ العقلاني على السطوة الدينيّة. ثم حلّ الكسوف والخسوف. مرحلة مضيئة سريعة مرّت في أواخر القرن التاسع ومطالع العشرين ثم التماعات ماركسيّة وفوضويّة منعزلة وانتهى الأمر. توالت الانقلابات العسكريّة و«الثورات» الشعبيّة على العالم العربي دون أن تحمل أيٌّ منها بذور العلمنة الفعليّة وحريّة المعتقد والتعبير بمأمن من فتاوى هَدْر الدم.
غياب الحريّة يعني حضور الخوف. لا عَتَب على خوف الأخ الصغير إذا كان أشقاؤه الأكبر خائفين. إذا كان أبواه خائفين. إذا مات أجداده من الخوف.
الصحافة أخ صغير في عائلة التعبير. الكبار هم الأدب والفكر والفلسفة والعلوم الإنسانيّة. الأكبر هو العقل.
نَسبُّ الصحافة لا لأنّ غيرها أفضل، بل لأنّنا لا نقرأ إلّا الصحافة.

ملعون ومبارك

ملعونٌ هو الماضي لأنّه لا يُمحى
ومباركٌ لأنّه شمّاعة الحسرات، ذريعة للنقمة، وذبيحةُ اللحظة والمستقبل...
ليتنا نقدر أن نختار منه، أن نغيّره!
تقول الفلسفة العقلانيّة، ويقول الرومنتيكيّون أنفسهم، إنّ الله لا يستطيع شيئاً حيال الماضي.
ولكنْ ماذا لو تَدخَّل الله عَبْر فقدان الذاكرة؟
ما دام الماضي ورقة ميتة في نظر الزمن فلمَ لا تُداس وتُحْرَق؟ لمَ هذا التسلّط على المصير؟
يكتفي الإنسان بأن يتوعّد المستقبل أو يَعِده. أو يحاول أن ينقش عليه أثراً. المستقبل سلّة الكرة، جبل التسلّق، حريّةُ مَن لا حريّةَ له...
... فريسةُ الماضي المقبلة.


اللحظات المفترسة

إذا كان ماضيك وهماً فماضي آخَريكَ وهم. لا تتأسّفْ. لم يربح غيرُ اللحظة التي كانت. اللحظة، لا أنت ولا هُم. اللحظة احترقت. بمُرّها وعنبرها. اللحظات المفترسة التَهَمَتْكم سواء.
الماضي محطّاتٌ لقطارٍ كلّما وصل إلى واحدةٍ منها محاها.


تحنيط

قد يبدو نسياناً ويكون العكس: ارتماءٌ في أحضان الماضي. ارتماءٌ إلى حدّ الاكتفاء. نَكـْبتُ الكلام عليه مخافة زعزعة التركيز عليه. عندما نعيش حالةً بعمقها، نحميها من الكلام. نحميها حتّى من شريكنا فيها.


«الشيطان»

«الذي يُرْجع الماضي تُقْطَع يده. الذي أمام الله لم يرتكب خطيئة لا تثريب عليه أمام القيصر»، يضع تولستوي هذا الكلام في قصّة «الشيطان» على لسان أجير عند ملّاك متزوّج حديثاً يخشى على سلامة زواجه من تحويم فلّاحةٍ فاتنة حوله كان قد أقام معها علاقة جنسيّة قبل الزواج وقَطَع كلّ صلةٍ بها وأقسم على الإخلاص التام لعروسه. أراد الأجير تطمين سيّده إلى أن أحداً لن يخبر الزوجة بأمر العشيقة السابقة، فلمَ الإصرار على طردها من
القرية؟
الإصرار لأنّ الماضي هنا لا يزال حاضراً طريّاً ندياً أخضر يُسيّل اللعاب، والفلّاحة الشهيّة تُحوّم كالقَدَر، وحواسُ الملّاك ليست حواس مَلَاك.
هذه ليست عودة للماضي بل هي استئناف للحاضر. هذا ماضٍ كاذب. لا ثقة بالركون إلى ذكرياته لأنّه لم يصبح ذكريات، لم يُنسَ حتّى يُستعاد، بل لم يكن لاهباً يوم كان ساري المفعول، وإنّما صار لاهباً بعد مرور الزمن، وبفعل انتباهةٍ متأخّرة... الشيطان لا ينسى مَن
ينساه.



ذاكريّات

ما يعجبني فيك، ذكرياتي.
آلان ــ فورنييه

■ ■ ■

الماضي بلادٌ غريبة يعملون فيها الأمور بشكل مختلف عن هنا.
لسلي بولز هارتلي

■ ■ ■

أعطانا الله قدرةَ التذكُّر حتّى يتسنّى لنا الحصول على الورد في كانون.
جيمس ماتيو بارّي

■ ■ ■

ذكرى السعادة لم تعد سعيدة. ذكرى الألم لا تزال أليمة.
لورد بايرون

■ ■ ■

احذرِ الذكريات حَذَرَكَ من ساعةٍ متوقّفة.
جورج شحادة
■ ■ ■
في ليلةٍ من الليالي يتّخذ المستقبل اسم الماضي
عندئذٍ يلتفت المرء ويرى صباه.
أراغون

■ ■ ■

الخَلْق هو فنّ الخلّاق في التنبّؤ بماضيه.
جان كايرول

■ ■ ■

ينوجد الماضي عندما نغدو تعساء.
لويز دو فيلموران

■ ■ ■

لا أدرك جيّداً إلّا ما أتذكّر وليس لي فطنةٌ إلّا في ذكرياتي.
جان جاك روسّو