تحكي «جيرترود» (المركز الثقافي العربي) قصة جيرترود ستاين (1874ــــ 1946). لا تتحدث رواية الكاتب والشاعر المغربي حسن نجمي عن حياة الأديبة الأميركية المعروفة فحسب، بل أيضاً عن قرن من تاريخ المغرب وفرنسا، وعن قصص فنانين وأدباء طبعوا القرن العشرين. هنا، تحضر البرجوازية الأميركية التي تركت بلدها لتجوب العالم كخيط ناظم لمصائر وتواريخ مختلفة، بدءاً من محمد الطنجاوي الذي يوصي الراوي، وهو على فراش الموت بإنجاز كتاب يستعيد سيرته... محمد الطنجاوي يشبه كثيراً رواة طنجة المشاهير: فيه من روح محمد شكري صاحب «الخبز الحافي»، ومحمد المرابط صديق الروائي الأميركي بول بولز الذي لا يزال حتى اليوم يجوب شوارع طنجة ويتحدث عن أيام قضاها مع كتّابها الكبار وحماقاتهم الجميلة... بموزاة قصة محمد الطنجاوي، تحكي الرواية حياة السارد حسن الذي يقف أمام مهمة شبه مستحيلة: عليه استعادة حياة محمد الطنجاوي وعشقه لجيرترود.
منذ بداية العمل الروائي، نكتشف أننا أمام رغبة حسن نجمي في أن يجمح الكتاب إلى آفاق أخرى: البيوغرافيا بما هي استعادة للتاريخ الشخصي للروائية الأميركية. أما الشعر، فيحضر في مواقع عدة من الكتاب الذي يمتد من طنجة، وباريس والرباط، ومدن أميركية ومتوسطية وصولاً إلى الدبلوماسية! ليس غريباً على نجمي هذا الميل إلى استحضار كل هذه المجالات، فهو شاعر أساساً وروائي صدرت له «الحجاب» عام 1996، خَبر جيداً عالم البعثات الدبلوماسية من خلال موقعه رئيساً لاتحاد كتاب المغرب، ومسؤوليته سابقاً داخل وزارة الثقافة مديراً لمديرية الكتاب. صمت إذاً الروائي لعقد ونصف قبل أن ينشر عمله الروائي الثاني.
يحمل السارد هو الآخر اسم حسن. وهو شاعر أيضاً تماماً مثل حسن نجمي. وكما نجمي الذي عمل صحافياً في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» ومطبوعات أخرى، يعمل السارد صحافياً ويندهش من حياة جيرترود التي تصبح هاجسه تماماً كما مؤّلف الرواية. لكن حسن السارد بطبيعة الحال ليس حسن نجمي. هو تلك الحدود الفاصلة بين نجمي وحياة أخرى متخيّلة تلتقي فيها العديد من صفات الكاتب في سارد الرواية. وهو ما يتردد في النص الروائي الذي يتحول في الكثير من المقاطع للتفكير في أشياء كثيرة تتعلق بمهنة الكتابة.
لكن كيف يمكن كتابة «العالم» في 335 صفحة؟ يبدو الرهان صعباً إن لم يكن مستحيلاً. إلا أن قصة الحب، حبّ محمد لجيرترود تسهّل رغبة المؤلف في استعادة تاريخ باريس وطنجة ومئة عام من تاريخ المغرب المعاصر!
يرسم ملامح شخصية البطلة عبر صفحات الرواية. وتماماً كما رسم بيكاسو بورتريه لجيرترود (1906) احتاجت ثمانين جلسة أو أكثر وفق ما تقول الروايات، نرى رغبة عارمة لدى نجمي في رسم بوتريه دقيق للروائية والقاصة الأميركية مع خلفية ليست سوى حيوات أماكن وشخوص متعددة. وهذا ما دفعه إلى البحث طوال عقد في منجزاتها، وما كتب عنها، وزار كذلك أماكن عاشت فيها.
كل هذا المجهود جاء ليُكمل بورتريهه الخاصة للكاتبة «المسترجلة» ويحاول سدّ الفراغات في سيرتها. هكذا يعود إلى قصة العشق المستحيل بينها، هي المرأة الأميركية المتمكنة من مفاتيح حداثة طليعية طبعت بدايات القرن العشرين وساهمت فيها (مثلاً ترتيب لقاء بين بيكاسو وماتيس وصالونها الأدبي الذي كان يجمع أعظم الأسماء)، وبين ابن طنجة الذي درس بفرنسا (كما يورد الروائي) لكنّه ظلّ قاصراً عن فهم كل هذه التحولات في الفنّ وتعبيراته. ورغم أنه عاش في عزّ تحوّل طنجة إلى منطقة دولية تعج بمثقفين أجانب عاشرهم، إلا أنّه يعيش صدمة الحداثة بكل ثقلها، ويمّحي أمام الروائية في باريس مدينة الأنوار حيث أعظم روائيي القرن وفنانيه يمرون ببيتها الذي تحول إلى صالون ثقافي.
محمد الطنجاوي ليس فقط تعبيراً عن قصة حب مستحيل. هو تلخيص لمغاربة لم يكونوا غرباء تماماً عن هذه الأجواء الكوسمبوليتية التي طبعت طنجة الدولية، لكنهم ظلوا «خارجها» بشكل من الأشكال.
محمد الطنجاوي في عمل نجمي يضيع داخل البورتريه الأكبر الذي أراد الكاتب المغربي رسمه لجيرترود. البطل الذي لم يثق السارد يوماً في حكاياته، إلا بعد الاطلاع على حقيبته التي حوت صوراً وقصاصات من جرائد، يمّحي أمام امرأة عاشرت أكبر قامات القرن العشرين، ليترك لأشياء أخرى أن تظهر في العمل الروائي: حياة الغجر في باريس في بداية القرن، قصص أناييس نن وبيكاسو... والعالم.