أربعة عناوين تتصدر أطروحة حسين العودات «النهضة والحداثة بين الارتباك والإخفاق» (دار الساقي): النهضة العربية، والحداثة، والعلمانية والديموقراطية. يرصد الكاتب السوري إرهاصات الحداثة في العالم العربي منذ بداية القرن التاسع عشر. يبدو صاحب «الآخر في الثقافة العربية» شديد الاهتمام بإشكاليته الأم: لماذا تعثرت النهضة والحداثة في المجال العربي؟ ورغم أن الطرح ليس جديداً، إلا أنّ ذلك لا يمنع الإضاءة على أكثر الإشكاليات أهمية لجهة تعثر الأفكار الحداثوية وسيطرة الاتجاهات التقليدية والتيار السلفي. يعرض الكاتب بإيجاز تجربة النهضة الأوروبية، وينتقل إلى بدايات النهضة في العالم العربي، مفنّداً الطروحات النهضوية عند غالبية التيارات، بدءاً من النهضويين الإسلاميين، مروراً بالنهضويين القوميين، وصولاً إلى دعاة العلمانية.
ثلاثية مشتركة تحكّمت في مفاصل الأفكار النهضوية في العالم العربي. اتجاه يطالب بتحديث الإسلام من الداخل عبر تطويعه لاكتساب مقومات الحداثة. هذا الاتجاه قاده مفكرون كبار أمثال رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعلي عبد الرازق... واتجاه ثانٍ سمّاه العودات «التيار النهضوي الليبرالي» حيث اختار ثلاثة نماذج: فرنسيس مراش (1836ـــ 1873) رافع شعار الحرية والمواطنَة، وشبلي شميّل (1850ـــ1917) داعية الإصلاح الجذري في الدين والاقتصاد، وفرح أنطون (1874ـــ1922) نصير العقلانية الفرنسية. أما الاتجاه الثالث، فرفعه النهضويون القوميون، بينهم أديب إسحاق، وبطرس البستاني، وناصيف اليازجي ونجيب عازوري.
يعود العودات إلى إشكاليته الأساسية: ما الذي أدى إلى إخفاق النهضة؟ النتيجة الأهم التي توصل إليها تتمثل في عدم توافر الشروط لنشوء الطبقة البورجوازية كقاطرة للتغيير. كذلك، يتطرق صاحب «المرأة العربية في الدين والمجتمع» إلى الأسباب الأخرى التي أفشلت تجارب النهضة، أبرزها التماهي المفرط للتيار الليبرالي مع منجزات النهضة الأوروبية، وسعي النهضويين الإسلاميين إلى المواءمة بين الحداثة والإسلام.
تستمدّ أطروحة العودات أهميتها من إضاءتها على مشكلة قديمة جديدة، على اعتبار أنّ العالم العربي ما زال سجين صراع الأفكار بين الإسلام السلفي والمعتدل من جهة وبين الليبرالية والقومية من جهة أخرى. ورغم أن تاريخ الجماعات وتقدمها لا يمكن مقاربته من تاريخ الأفراد لناحية الارتقاء الحضاري، يبقى السؤال المركزي الذي أطلقه شكيب أرسلان (لماذا تقدم الغرب وتأخّر المسلمون؟) قابعاً في الذاكرة الجمعية، خصوصاً أن النظرة إلى الدين والمجتمع والثقافة تتحكم فيها السياقات الأسطورية والماورائية وليس العقل.
اجتماعياً، تغرق المجتمعات العربية في إيديولوجيا الوهم الديني، والمقصود هنا سيطرة التدين الشعبي وتمدّده، وغياب الوعي عند الجمهور. ما أشرنا إليه لا يعالجه الكاتب بالمستوى المطلوب، رغم أنه العامل الأساسي في معاينة فشل تجارب الإصلاح العربي.
قبل أن يدرس الكاتب تجارب المفكرين العرب مع الحداثة، يستهل الفصل الثاني بالإضاءة على مقوّمات الحداثة وما بعدها في أوروبا، مشيراً إلى أنّ مركزية الإنسان في العقل الأوروبي خسرت معركتها مع تحوّل الإنسان مادة تتقاذفها العولمة تحت راية الصورة واللغة الرقمية والهويات الهجينة والاستهلاك.
في العالم العربي، استقبلت الانتلجنسيا مفاهيم الحداثة بحذر مزودج: الإسلامويون المعتدلون رفضوا أجزاءً منها، والقوميون حاولوا الأخذ بها بشروطهم. فما الذي حدث؟ كلاهما عجز عن اكتساب مقومات الحداثة وفهم أصولها، لكن ثمة مؤشر أخطر يتخطّى هذه العقبة. يخلص الكاتب إلى أن غلبة القبلية والطائفية والعشائرية والاستبداد السياسي حطّمت الإرهاصات الأولى للحداثة عند العرب. وها هم اليوم يكتفون بالحداثة المادية المستوردة من الغرب، وينظرون إلى العالم بمنظار القرون الوسطى، سواء في مقاربة الدين أو في آليات التعبير السياسي والمجتمعي.
هزيمة 1967 مثّلت منعطفاً في سير العرب نحو الحداثة. ظهر السلفيون وتراجع القوميون واليساريون والليبراليون، وحتى بعض النخب الثقافية ما عادت تحمل شعارات التحديث، وفقاً لمفهوم المثقف العضوي، بل على العكس. لقد ذابت في أروقة السلطان الديني والسياسي. وهذا ما ينطبق على الطبقة البورجوازية التي لم تمارس إلّا دور الوسيط، مع العلم بأن البورجوازيين في أوروبا أدّوا دوراً نوعياً في دعم مسيرة الحداثة.
احتلت العلمانية ـــ أو الحلانيّة عند العلّامة عبد الله العلايلي ـــ الخطاب العربي في النصف الثاني من القرن الماضي. نادى بها فرح أنطون، وسلامة موسى، ولويس عوض، ونقولا حداد ويعقوب صروف. هؤلاء دعوا إلى الفصل الكامل بين الدين والدولة، في حين انّ الليبراليين الأقل انحيازاً إلى هذا الخيار تبنّوا العلمانية بقالبها القومي رداً على الجامعة الإسلامية التي دعا إليها النهضويون الإسلاميون، وفي طليعتهم جمال الدين الأفغاني. «النهضة والحداثة بين الارتباك والإخفاق» أطروحة ليست جديدة على المكتبة العربية، إلّا أنها تقدم مادة أوّلية لمن يريد التعرف إلى نشوء الاتجاهات النهضوية في العالم العربي وأسباب إخفاقها.