ككلّ أهل الجنوب المصري، ما زالت تؤمن بأنّ أهل القتيل لا يصحّ أن يتلقّوا العزاء به قبل الثأر له. أم الشهيد، كما تحب أن تنعت نفسها، ونادية فلتس بشارة كما تقول أوراقها الثبوتية. عاشت في الصعيد، فعرفت قسوة الحياة تحت شمسه الحارقة ووسط فقره المدقع، فكانت خليطاً يجمع الحب بالعطاء، والقوة بالحرية. هي أمّ مينا دانيال. اسم المدوّن والناشط المصري الذي استشهد في 9 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أمام مبنى التلفزيون المصري، صار على كلّ لسان. طلب في وصيته الأخيرة أن يطوف جثمانه «ميدان التحرير» ملفوفاً بعلم بلاده، مردّداً: «أمانه ما يمشي ورا جثتي سوى المتهومين في الوطن، تهمتي» (في إشارة إلى أغنية الشيخ إمام الوداعية للشهيد سليمان خاطر الذي اغتيل في سجنه، بعد اتهامه بقتل جنود إسرائيليين على الحدود المصرية عام 1985).الصعيد في مصر ككل «جنوب»، يعاني الإهمال، والتهميش... رحلات الهجرة الداخلية إلى الشمال لا تتوقّف أبداً. نادية هاجرت هي الأخرى إلى القاهرة، لكنّها لم تحتمل حياة العاصمة. عادت بعد عشر سنوات إلى قرية صنبو في محافظة أسيوط. عندما جاءها خبر مقتل مينا، كانت جالسةً على أريكتها البسيطة أمام شاشة التلفزيون، تشاهد بثاً مباشراً لمسيرة للأقباط تحركت من حي شبرا (شمال القاهرة ذات الأغلبية القبطية). وكان من المفترض أن تصل التظاهرة إلى محيط مبنى «اتحاد الإذاعة والتلفزيون» على كورنيش النيل وسط القاهرة. سمعت صرخة شيري ــــ ابنتها الصغرى ــــ في التقرير المصوّر الذي نقلته قناة «الطريق» المسيحية على الهواء مباشرة. «ولدي مات يا إبراهيم (زوجها). ولدي مات قلبي بيقولي أنه مات»، ردّدتها كثيراً بلهجة صعيدية تحوّل فيها القاف إلى جيم.
عزبة النخل، حي فقير في شرق القاهرة تسكنه 100 ألف نسمة تقريباً، ويقيم فيه ثلاثة من أبنائها: ماري، وشيري، ومينا. الطريق إلى هناك يخبرك كيف يموت سكان هذا المكان ألف مرة في اليوم الواحد، قبل أن تزهق أرواحهم فعلاً. طرق غير ممهدة، قذرة للغاية، مغبرة بلا وسائل نقل جماعي غير مركبات «التوك توك». محافظ القاهرة أصدر قراراً بالقبض على أي شخص يقود هذه المركبات في العاصمة. ورغم وقوع المنطقة في نطاق القاهرة، إلا أنّ «التوك توك» يبقى الوسيلة الوحيدة للنقل هناك.
بناء العقار في القاهرة كان اختباراً لنادية. «كنت أقف مع العمال، وهم يبنون البيت، مثل أي رجل». سافر زوجها خلال هجرات المصريين إلى دول النفط، فطالت إقامته في الكويت 15 عاماً. صارت نادية «رب البيت»، تتكفل برعاية الأبناء الأربعة وتربيتهم. «الصعيدي حين يسافر ينسى نفسه. المهم عنده أن يجمع قرشين لساعة الحاجة»، تقولها وهي تبتسم ثمّ تكمل: «بس أنا واخده على شيل الهم من بدري». اختبرت اليتم وهي صغيرة، وتسأل: «السفر مش تيتم برده للعيال؟».
في حضرة أم مينا يختلط النحيب بقوّة الصعيد، والعويل بإيمان أنّ فقيدها في «أحضان المسيح». بساطة حديثها عن مينا تُشعرك أنّه ما زال يرقد على سريره في الحجرة المجاورة. تحكي عنه كأنّه ما زال حياً. «قلت له إحنا نسهر برّه يا مينا؟ قال لي: الذين أسهر معهم «ناس كويسة يا ماما»، صحافيون ومحامون وأطباء. قلت له: أفرحتني يا ولدي. وركضت إلى أبيه أفرّحه بـ«الناس الكويسه» الذين يسهر معهم مينا».
قبل يوم الأحد 9 تشرين الاول (أكتوبر)، كانت لديها ثقة كبيرة بالقوات المسلحة. «كنت أعرف أنّه سيشارك في التظاهرة مع أختيه ماري وشيري. قلت لولدي الآخر إسحق أن يأخذ زوجته، وينزل معهم. قلت له لا تخف، نحن في حمى الجيش». اختلف الأمر تماماً بعد مقتل 25 متظاهراً في الاشتباكات التي وقعت الأحد بعد وصول مسيرة الأقباط إلى مشارف مبنى ماسبيرو. «الجيش هو الذي قتل ابني، الآخرون لا ذنب لهم، لا السلفيون ولا الإخوان»، تقول. وتضيف: «هتشرّقوا هتغرّبوا هي الحكومة». والحكومة ترمز في الثقافة الشعبية المصرية إلى رجال الأمن من جيش وشرطة.
احتضان الكنيسة وحدها للأقباط في مصر جعل نادية ورفاقها يتركون حلّ مشاكلهم للقساوسة والكهنة. غير أنّ ما تتمتع به نادية من وعي فطري، وعضوية ابنها الأصغر في «حركة العدالة والحرية» ــــ حركة شبابية تدافع عن حقوق الفقراء ــــ جعلاها ترى أنّ الحرية هي الحلّ الوحيد. «لست نادمةً لأنّ ابني مات. هو كان يدافع عن الحرية»، تقولها قبل أن تكمل اللطم على ساقيها وهي تضيف: «بس هي الفرقه اللي واجعاني... إنما أنا أم شهيد».
خوفها الأكبر الآن ليس على قانون بناء دور العبادة الموحّد الذي يرى فيه كثر حلاً مثالياً للقضاء على أزمات التعدي على الكنائس قيد الإنشاء في مصر. كل ما يشغلها هو الخوف من «غدر الحكومة بأصحاب مينا»، بعدما تعهّد رفاقه في «حركة العدالة والحرية» بمعاقبة القتلة. «من يقتل مرة، يقتل ألف مرة»، تقول. لم تأتها التعهدات برد حق مينا من أصدقائه فقط. «كثيرون اتصلوا بي، وقالوا، دم مينا في رقبتنا». ففي الوقت الذي يتهم فيه الجميع جماعات دينية كالسلفيين والإخوان المسلمين بالمشاركة في الاعتداء على الأقباط، تقسم أم مينا: «اتصل بي شاب سلفي وقال لي إنّ دم مينا لن يذهب هدراً».
تُظهر أم مينا قوة كامنة داخلها وهي تقول: «لو أراد أولادي أن ينزلوا مرة جديدة للتظاهر، فلن أمنعهم». لا أحد يطال حقاً من دون مثابرة. تتذكر ابنها الذي أصيب مرتين: الأولى في بداية ثورة «25 يناير»، والثانية خلال مشاركته في تظاهرات استكمال الثورة. «لم أمنعه من التظاهر بعد إصابته، لأنّه كان ينادي بالحقّ». هذا هو منطقها في المطالبة بالحقوق. ولهذا ترى أنّ من حقّ المسيحيين أن يتظاهروا داخل الكنيسة وخارجها. القوة ذاتها ظهرت عندما جاءت إلى المستشفى القبطي الذي نقل إليه أغلب ضحايا الاعتداء. «رأيت جثثاً على الأرض، لكنّ جثة مينا كانت على مكان مرتفع. رأيته من بعيد. كان هناك 18 شهيداً في حجرة واحدة». يومها انتشرت شائعات عن رفض أهالي الضحايا تشريح جثثهم. «الجسد سيدفن في التراب. قلت لهم إنني موافقة على التشريح ووالده موافق أيضاً. لازم أعرف إبني مات إزاي».
تسألها عن رأيها في حلّ قضايا الأقباط في مصر، فتكتفي برفع عينيها إلى السماء وتقول: «هو القادر على حلّ كلّ شيء». إنّها نفسها تلك الحالة الإيمانية التي ودّعت بها مينا يوم استشهاده. «الملائكة أخذت روحه، ورفاقه زفّوه من «ميدان التحرير» ملفوفاً بعلم مصر كما أوصاهم. وفي المستشفى، يوم الاثنين، قلت له صباحيتك يا عريس». بلاغتها في رثاء مينا تصيبك بالذهول عندما تعرف أنّها لم تكمل إلا مرحلة واحدة من تعلىمها الأساسي. «كنت بكره العربي ــــ اللغة العربية ــــ وبحبّ الحساب قوي».



5 تواريخ

1954
الولادة في صنبو (محافظة أسيوط ــــ الصعيد المصري)

1977
هاجر زوجها إلى الكويت فعملت وحيدة على تربية أبنائها

1991
أنجبت أصغر أبنائها مينا دانيال

1992
انتقلت من الصعيد للإقامة في القاهرة، ثمّ عادت إلى مسقط رأسها بعد عشرة أعوام

2011
مقتل مينا في 9 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي أمام التلفزيون المصري، بعد أشهر على مشاركته الفاعلة في «ثورة 25 يناير»