القاهرة | عندما توفي كمال الشناوي قبل أسابيع (22 آب/ أغسطس الماضي)، اتّجهت كل الأنظار إلى عمر الحريري، إذ عُدّ هذا الممثل آخر نجوم «جيل الآباء»، وخصوصاً أن السنوات الأخيرة شهدت رحيل أبرز مبدعي تلك الحقبة. إلا أن يوم أول من أمس حمل إلى المصريين والجمهور العربي خبراً محزناً: رحل عمر الحريري بعد مسيرة طويلة مع الحياة والفن. وكما هي العادة مع نجوم تلك الحقبة، تختلف الروايات بشأن تاريخ ميلاد هذا النجم المصري، وإن كان التاريخ الأقرب إلى الواقع هو عام 1922. في عام 1947 تخرّج عمر الحريري من «المعهد العالي للفنون المسرحية»، وهي الدفعة نفسها التي ضمّت فريد شوقي، وشكري سرحان، ليبدأ بعدها مسيرته مع المسرح والسينما. البداية كانت مع فرقة يوسف وهبي، التي شارك معها في أدوار تراجيدية، قبل أن تفتح ثورة يوليو (1952) المجال أمام جيله لتقديم عشرات الأفلام.
ورغم ذلك، لم يعرف الحريري البطولة المطلقة إلا في فيلم واحد هو «أغلى من عينيه»، الذي شاركته بطولته سميرة أحمد عام 1955، إذاً لم يستمرّ الحريري في طريق البطولات، وتفرّغ لأداء الشخصيات المساعدة التي لها تأثيرها في العمل، وفي ذاكرة المشاهد. ومن خلال هذه الأدوار، تحوّل تدريجياً إلى أيقونة من أيقونات السينما المصرية. وقد أسهم في نجاحه حبّ الجمهور الكبير له في مصر وفي الدول العربية، وخصوصاً في ليبيا، إذ أسهم الحريري في تأسيس المسرح الليبي في سبعينيات القرن الماضي.
لكن قبل سفره إلى ليبيا، قدم الحريري عدداً كبيراً من الأدوار المتنوّعة، أبرزها شخصية الملك فيليب أوغسطس في فيلم يوسف شاهين الشهير «الناصر صلاح الدين». وفي المرحلة نفسها، قدّم شخصية فريد، الفتى الخجول مع صديقيه كمال الشناوي وعبد المنعم إبراهيم في الفيلم الشهير «سكر هانم». والمفارقة أن الشريط تحول أخيراً إلى مسرحية شارك فيها أيضاً الحريري، لكن هذه المرة في دور الأب، إذاً بعد شريط «سكر هانم»، أطل الحريري مرة جديدة ليقدّم شخصية الشاب المضطرب نفسياً في فيلم «أم رتيبة» مع ماري منيب وفؤاد شفيق، وشخصية الشقيق الذي يساند شقيقته ضد ظلم الباشا في «نهر الحب» مع فاتن حمامة، وزكي رستم. ثم قدّم دور المدرِّس العاجز عن الإنجاب في «غصن الزيتون» مع أحمد مظهر وسعاد حسني، إلى جانب أفلام أخرى مهمة، منها «الأفوكاتو مديحة»، و«ابن النيل»، و«العتبة الخضراء»... أما المرحلة الثانية، التي يمكن وصفها بمرحلة النضج الفني، فشهدت تعاوناً مثمراً بينه وبين عادل إمام، إلى جانب أعمال أخرى مثل «المذنبون» أمام سهير رمزي. ثم جسّد دور رجل الأعمال الفاسد المتظاهر بالتديّن في «أهل القمة» مع نور الشريف. وبعد هذه الأعمال، عاد ليكوّن ثنائياً مع عادل إمام. بدأ التعاون في مسرحية «شاهد ما شافش حاجة»، ثم «الواد سيد الشغال»، كما تعاونا في التلفزيون من خلال المسلسل الأول لـ«الزعيم» وهو «أحلام الفتى الطاير»، فأدّى شخصية الأديب الذي أصيب بالجنون بسبب غدر زوجته. ثمّ قدّم مع إمام فيلمي «قاتل ما قتلش حد»، و«انتخبوا الدكتور سليمان عبد الباسط». كذلك شارك أحمد ذكي بطولة آخر أفلامه «معالي الوزير»، فأدّى شخصية رئيس الوزراء.
ولعل ما ميّز الحريري كان مشاركته في مسلسلات تلفزيونية متنوعة. هكذا شاهدناه في أعمال كوميدية («ساكن قصادي»)، واجتماعية («البنات»، و«ماما القسم»)، وتاريخية حيث أدى اللهجة العربية الفصيحة، فجسّد دور الخليفة عبد الملك بن مروان في مسلسل «عمر بن عبد العزيز». كذلك قدم أداء صوتياً مبهراً لشخصية الزعيم الفاشي بينيتو موسيليني في النسخة المدبلجة للعربية من فيلم «عمر المختار». ورغم أن ظهوره الدرامي الأخير كان في رمضان 2011 في مسلسل «سمارة»، إلا أن آخر أدواره الراسخة في ذاكرة الجمهور كان من خلال مسلسل «شيخ العرب همام»، بطولة يحيى الفخراني في رمضان 2010. وقد أدّى وقتها دور والد الفخراني، ونجح في ترك بصمة مؤثرة، رغم أن الشخصية نفسها تُتوفى في الحلقة السادسة. ويقول المقربون من الحريري إنه لم يوفّر فرصة للقاء الجمهور إلا واستغلها. وآخر مشاركاته الفنية كانت قبل أيام قليلة حين أطلّ على مسرح الطفل ليقدّم مسرحية «حديقة الأذكياء» المخصصة للأطفال الذين لم يتجاوز عمرهم العاشرة.
رحل إذاً عمر الحريري عن عمر اقترب من التسعين، بعد إصابته بمرض سرطان العظام. وهو المرض الذي لم يبعده يوماً عن الساحة الفنية، ولا عن زملائه، فشاركهم أفراحهم وأحزانهم... وقد شُيِّع جثمان النجم القدير بعد ظهر أمس من مسجد أبو بكر الصديق في القاهرة، ليوارى في ثرى مقبرة الإمام الشافعي.