ورشة حُرّيّة تعمل بجدّ في حيفا المحتلة، بضعة شبان وصبايا يدخلون اليوم السابع من إضرابهم عن الطعام أسوة بالأسرى المضربين عن الطعام، منذ أكثر من أسبوعين في سجون الاحتلال. يفترشون منطقة حيوية من الشارع شبه السياحي المقابل لـ«الحدائق البهائية» في وسط الحي الألماني، بحيث أصبحوا منطقة التقاء للشباب الوطني ومنطلقاً للتظاهرات وللأمسيات الفنية. فنانون كثر نلاحظهم بين منظّمي الإضراب والتظاهرة والفعاليات الفنية المسائية.
حالة عفوية من تضافر الوعي والفن بالنضال الوطني المرتبط بامتداده العربي. ثمة بين الشباب المضربين كتّاب وضعوا الكتابة جانباً. صديقنا مهند أبو غوش وطفله غسان يتفلّت من أُمّه، ويخلق حالة مرح في الشارع. طفل ورمز. غسان كنفاني يتعلم المشي في شوارع حيفا. مجد كيّال كبر قبل أوانه، يبدو شقيقاً لوالديه الموجودين في المكان لا ابنهما. أما شقيقه الأصغر ورد فيرينا موهبته في تصدّر الهتاف والتظاهر.
تجد على فرشات المضربين الجزء الثالث من مختارات «دار التقدم» للينين، ورواية «سمرقند» لأمين معلوف ـــــ يرقب من داخلها عمر الخيام وحسن الصبّاح ونظام الملك، عصراً آخر غامضاً هو الزمن العربي الذي يستجمع أنفاسه ليقاوم.
انطلقت التظاهرة الكبيرة مساء الثلاثاء الماضي من مكان الإضراب لتغلق الشارع وتزرعه بأعلام فلسطين. لا ضبابية، فتحرير فلسطين «من المَيّة لـ المَيّة». تبدو فلسطين استعارة لوطن عربي أكبر، يطلب حريته من الماء إلى الماء. ومثل «تظاهرة حيفا» تبدو الحرية محاطة بأعدائها الذين يراهنون على أنّها حالة عابرة وسيعود «الاستقرار» و«الهدوء» عما قليل.
بعد قرابة ساعتين من التظاهر، تحوّل الأمر إلى أمسية فنية تحت قمر حيفا. شكل من الارتجال المنظم. تيريز سليمان غنّت «يا أبينا الذي في السما/ إنت ع راسي/ إنما/ عندي كلام»، وولاء سبيت قدّم أغنية «ريغا» ساخرة ومتحدية «أنا لابس شروال سيدي/ ومش مستحي». ولعل أقوى العبق جاء من قصائد أحمد فؤاد نجم التي أدى مختارات منها الممثل المسرحي عامر حليحل. عامر لم يؤدّ القصائد، بل بدا كأنّه يكتبها في تلك اللحظة، ويستعيد تجربة شاعر لعله الأهم في مصر المعاصرة. ولا سيما قصائد نجم في السجن عن مصر الراجعة وفلسطين الساكنة في حبّة عين الشاعر، والثائر وذلك الغد الذي كان يَعِد به في ظلمات ذلك الزمن... وعاش «نجم» إلى أن شهده.