أخيراً، انتهى من تصوير The Revenant «العائد» (2015)، جديد أليخاندرو غوانزاليس إيناريتو (1963) الذي يتحدّى به الجميع الأوسكار القادم. المعلّم المكسيكي يعود بعد تحفة «بيردمان» (2014) مع نجم دمار شامل هو ليوناردو دي كابريو، إلى جانب توم هاردي الذي يزداد صلادةً فيلماً تلو الآخر.
المطّلع على بيوغرافيا إيناريتو، منذ «ثلاثية الموت» («أموريس بيروس» 2000، «21 غراماً» 2003، «بابل» 2006)، مروراً بـ «بيوتفل» (2010)، يدرك أنّ الرجل لا يرضى بأقل من الكمال (الأخبار 2/2/2015). عن رواية بالاسم نفسه لمايكل بانك، وضع أليخاندرو السيناريو بالاشتراك مع كاتب أفلام رعب يُدعى مارك ل. سميث.
الرعب ليس بعيداً عن أجواء القصة بطبيعة الحال، وإن كان من النوع الوجودي لا الاستهلاكي الذي تمضغه هوليوود عادةً. «هيو غلاس» (ليوناردو دي كابريو) يجد نفسه وحيداً في مواجهة العالم عام 1823. الطبيعة مطحنة لا توفّر أحداً. برد يفتك بالعظام. دببة شرهة للدماء. انهيارات ثلجية جارفة. كل ذلك أهون من خيانة بشريين تركاه للموت. «جون فيتزجيرالد» (توم هاردي) و«أندرو هنري» (دومنهال غليسون) يعثران عليه جريحاً إثر هجوم دبّ شرس. الثلاثة يتعرّضون لهجوم من أصحاب أميركا الأصليين (يُعرَفون بالهنود الحمر). يسرقان سلاحه ومؤونته، ويلوذان بالفرار ليلاقي مصيره. تاجر فراء خبير هو. معتاد على التنقل بين ولايات وايومينغ ومونتانا ونبراسكا وداكوتا. هكذا، يقرّر الانتقام. يقطع مئات الكيلومترات طلباً للثأر. «رحلة وجودية تصنع منه أسطورة جبال» على حدّ تعبير دي كابريو نفسه. ليس غريباً أنّ الأحداث مستوحاة من قصة حقيقية، قدّمها الأميركي ريتشارد س. سارافيان عن سيناريو لجاك دي ويت في Man in the Wilderness «رجل في البريّة» (1971).
العزلة والوحشة تحت رحمة الطبيعة والثلوج. على المحك الوجودي، يولد العنف، وتطفو الغرائز البدائية على السطح. هذه لعبة كوينتن تارانتينو هذا العام أيضاً في The Hateful Eight «البغيضون الثمانية»، حين يلجأ ثمانية أشخاص إلى مأوى جبلي في «وايومنغ» (أيضاً) هرباً من عاصفة ثلجية مريعة (الأخبار 18/5/2015). كان التركي نوري بيلج جيلان قد سبقهما بشكل مغاير في «سبات شتوي» (2014)، إذ فتك سعفة «كان» آنذاك (الأخبار 2/3/2015).

الرعب ليس بعيداً عن أجواء القصة، وإن كان من النوع الوجودي

الصمت فضيلة في «العائد». بطله يتمتم بضع عبارات بين فينة وأخرى. يقول دي كابريو عن ذلك: «هذا تحدّ مختلف بالنسبة لي. لعبت العديد من الشخصيات التي تتكلم كثيراً. هنا، أردتُ أداء شخصية تتكلّم بالكاد. كيف يمكنك أن تتابع رحلة مليئة بالمشاعر، والانسجام مع هم هذا الرجل من دون كلام؟». إيناريتو يوافق بحماس: «هذا جوهر السينما. عدم الاعتماد على الكلمات، بل الصور والعواطف». ليو يتابع: «إنّه مثال على الاحتمالات الضارية، عندما تواجه روح الإنسان العديد من التحديات: عنصرية وجسديّة وروحية واجتماعية. هكذا، عملتُ على خلق هيو غلاس الخاص بي. الرجل الذي قد يكونه في الحقيقة».
التصوير رحلة لا تقلّ ضراوةً عن مسير غلاس. تأجيل متكرّر بسبب تضارب مواعيد، ثمّ صعوبات إنتاجية بسبب انسحاب إحدى الشركات إثر رحيل مديرها. موزّع الفيلم «فوكس» رفض تعويض المبلغ، فاستغرق إيجاد بديل بعض الوقت. إذاً، حتى الأسماء الكبيرة تتعرّض لخضّات إنتاجيّة من هذا النوع، في درس لجميع صنّاع الأفلام. الفضل في بقاء المشروع على قيد الحياة يعود لوجود نجم بثقل دي كابريو، والأوسكارات الأربعة التي حصدها «بيردمان» لاحقاً، بما في ذلك أفضل فيلم وأفضل إخراج. أخيراً، انطلق التصوير في تشرين الأول (أكتوبر) 2014. مصرّاً على تصوير المشاهد حسب تسلسلها، نصب إيناريتو كاميراه في الجبال الكندية، ثمّ انتقل إلى جنوب الأرجنتين بسبب ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الثلوج. مواقع تصوير بكر، تطأها الأقدام، وتنتهكها العدسات لأوّل مرّة في التاريخ. السينماتوغرافي الفلتة إيمانويل لوبيزكي «شيفو»، يحبّ الإضاءة الطبيعيّة في التصوير، للحصول على أقصى حدّ من الواقعية. الرجل الذي كان عين تيرانس مالك وألفونسو كوارون والأخوين كوين وتيم بورتون ومايكل مان وآخرين، لا يجد حرجاً في صرف ساعات منهكة على البروفات، والتقاط المشهد الواحد على أيام عدة لاقتناص الضوء الصحيح. الانتقال صعب، يستهلك 40% من اليوم. البرد أقسى ممّا يُحتمَل. فترة التصوير امتدّت لتسعة أشهر، كمدّة الحمل تماماً. التسلسل في التقاط المشاهد لم يعد ممكناً. الممثّلون والفنيّون عاشوا تجربةً وجوديةً فريدةً بدورهم. هذا دفع بعضهم إلى التذمّر والاعتراض، فكان الطرد الصارم من نصيبه. إيناريتو برّر ذلك بضرورة الحفاظ على أوركسترا متناغمة. لا بدّ من فرق إسعاف وآلات تدفئة في ظروف «وحشية» كهذه. الميزانية قفزت من 90 إلى 135 مليون دولار. يُقال إنّ المخرج منع المنتج جايمس و. سكوتشدوبل من التواجد في اللوكيشن. دي كابريو وهاردي لم يتفوّها بكلمة. الأول يدرك أنّ الداهية المكسيكي قد يجلب له الأوسكار المشتهى منذ سنوات. الثاني جعل نفسه جندياً عن طيب خاطر، بل اعتذر عن «فرقة الانتحار» (2016) لديفيد إير. لا ريب أنّ «العائد» انضمّ إلى قائمة الأفلام القاسية على صنّاعها، مثل «القيامة الآن» (1971) لكوبولا و«بوابة الجنة» (1980) لمايكل كيمينو و Fitzcarraldo 1982 لفيرنر هيرتزوغ.
«هراء». يصف إيناريتو الفيلم، في حال تصويره ضمن استوديو مغطّى بشاشات خضراء أو «كروما». مع ذلك، يعترف إثر اختبار عاصفة ثلجيّة بدرجة حرارة 29 تحت الصفر: «مرّت لحظات سألتُ فيها: ماذا نفعل هنا بحق الجحيم؟».