«بعيداً عن الحشد الصاخب» الذي يعرض حالياً في «متروبوليس أمبير صوفيل» يحمل توقيع الدانماركي توماس فينتربرغ (1969) الذي أسس في بداية التسعينيات ما عرف بـ «الدوغما ٩٥» (Dogme 95) إلى جانب مواطنه لارس فون تراير. هي حركة سينمائية طلائعية تتشابه في بعض توجهاتها مع الموجة الجديدة في السينما الفرنسية. ترفض المؤثرات الخاصة والتقنيات المكلفة والمعقدة التي تعتمدها الاستوديوهات الكبرى في مراحل الإنتاج وما بعد الإنتاج لإعادة التركيز على القيمة الفنية للعمل السينمائي المتمثلة في جمالية السرد أو القصة المطروحة أو التمثيل وليس فقط الإبهار البصري الفارغ .
اشتهر فينتربرغ من خلال «الاحتفال» (1998) أولى الأفلام التي قدمتها حركة «الدوغما» الذي قام بكتابته وإخراجه وحاز جائزة لجنة التحكيم في «مهرجان كان السينمائي» حينها، و لو أن الفيلم لم ينسب إليه رسمياً. فقد من قوانين حركة «الدوغما» يومها عدم التعريف بمخرج العمل. في «بعيداً عن الحشد الصاخب»، يستعيد فينتربرغ رواية الكاتب الإنكليزي الواقعي من العصر الفيكتوري توماس هاردي (١٨٤٠ – ١٩٢٨) الذي تأثر بالحركة الرومانسية، بخاصة أعمال الشاعر ويليام وردزورث وبشارلز ديكينز ولو أنه كان مهتماً أكثر بانتقاد أحوال المجتمع الريفي. تدور أحداث القصة في ريف إنكلترا خلال الحقبة الفيكتورية. البطلة باثشيبا إيفردين (الممثلة كاري موليغن) التي تعيش إلى جانب عمتها، هي شديدة الاستقلالية كما تعرّف عن نفسها حرفياً في مقدمة الفيلم. أمر يدفعها إلى رفض الزواج من المزارع غابرييل أوك (الممثل ماثياس شورنارتس) رغم الإعجاب المتبادل بينهما. تخبره بأنها تحلم بالاستقلالية، غير أنّها تضيف أنها بحاجة إلى رجل قادر على ترويضها في لقطة هزلية تماماً.

لغة سينمائية شاعرية
تجعل الطبيعة بطلاً
ثالثاً في الفيلم

منذ البداية، تبرز مشكلة الفيلم في حواراته الأدبية التي لا تنجح كاري موليغن في أدائها بشكل مقنع ولا تبرز تناقضات هذه الشخصية المتنازعة داخلياً بين صورة المرأة التقليدية وتلك الحرة. هي تسعى للخروج عن صورة المرأة النمطية التابعة للرجل على الأقل مهنياً أو مادياً، لكنها ترى الرجل أو تقيمه من الزاوية التقليدية ذاتها، بحسب قدرته على إخضاعها أو السيطرة عليها. ترث باثشيبا إيفردين لاحقاً مزرعة عمها، ويأتي غابرييل الذي خسر مزرعته، ليساعدها في إدارتها ويعمل لديها، وتبقى العلاقة بينهما معلقة. في هذا الوقت، تتعرّف أيضاً إلى صاحب الأراضي والمزارع الثري السيد بولدوود (الممثل مايكل شين) الذي يغرم بها ويطلب يدها، لكنها تظل مترددة ولا تحسم أمرها بين الاثنين. يصل أخيراً فارس الأحلام المنتظر، وهو الرقيب فرانك (الممثل توم ستوريدج).
بسيفه الضخم وشجاعته وكلماته الشغوفة، ينجح فرانك في الفوز بقلب باثشيبا أو بالأحرى إخضاعها كما نرى في مشهد الغابة حين يستعرض مهاراته في المبارزة أمامها. يطلب منها أن تقف ثابتة فيما يلوح بسيفه بجانب عنقها، وبعدها يقبّلها بشغف كمكافأة على ثقتها بها ووضع حياتها تحت تصرفه. يتزوجان في ما بعد، لكن بطبيعة الحال تسوء العلاقة تدريجاً، ففرانك لا يجد غير الخواريف ليحاربها في المزرعة ثم يدمن القمار، وتعود حبيبته السابقة الحامل التي تموت، فينتحر بعدها. مرة أخرى، تجد باثشيبا نفسها متنازعة بين غابرييل وبولدوود وشبح زوجها الذي يعود فجأة إلى الحياة. في النهاية، تختار باثشيبا غابرييل، حبها الحقيقي أو الوحيد المتبقي بعدما قضت عليهم جميعاً. هي تلك السخرية الضمنية في أسلوب تشريح العلاقات أو الحب الذي لا يخضع سوى لمنطق البلاهة أو السوريالية الذي يغني القصة. لكن الفيلم لا ينجح بأسلوب إخراجه في التنقل بين الدراما والكوميديا بأسلوب سلس.
غير أن اللغة السينمائية الشاعرية التي يعتمدها المخرج وتجعل الطبيعة بطلاً ثالثاً في الشريط عبر التواتر بين الظل والضوء بما يعبّر عن التنازع الداخلي التي تعيشه الشخصيات، تنقذ الفيلم من إيقاع الحوارات الموحد. ويبرز أداء الممثلين مايكل شين وماثياس شورنارتس أكثر احترافية من أداء كاري موليغن التي تؤدي دور البطولة.

Far from the Madding Crowd: «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/204080