الأسبوع المقبل تشهد بيروت حدثيْن فنيّيْن من فئة الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وذلك ضمن إطارين مختلفيْن لكن بتوقيع واحد، عربي الأصل. الموعد الأول ريسيتال للبيانو المنفرد في قصر الصنوبر، تقدّمه مساء الثلاثاء المقبل عازفة البيانو الفرنسية من أصل سوري رشا عرودكي. أمّا الموعد الثاني، فأمسية تجمع عرودكي بالأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية بقيادة الفرنسي، الأرمني الأصل فاهان مرديروسيان استثنائياً. في هذه السطور نسلّط الضوء على برنامجيْ الليلتيْن، لكنّنا نفرد المساحة الأكبر للفنانة السورية/الفرنسية، لا لأنّها أعلى شأناً من زميلها ــــ وهو بالمناسبة عازف بيانو مرموق قبل أن يكون قائد أوركسترا ـــ بل لأن الحدث عموماً يتمحور حولها.
نشير في البداية إلى أنّ رشا عرودكي سبق أن زارت لبنان (وكذلك فاهان مرديروسيان) ضمن الدورة ما قبل الأخيرة لمهرجان «البستان». يومها، كانت الصحافة العالمية المتخصصة تحتفي بالتسجيل الناجح الذي قامت به عرودكي لمجموعة من سوناتات أحد رموز عصر الباروك دومينيكو سكارلاتي (1685 ـــ 1757). لذا، كان من الطبيعي أن تتمحور أمسيتها حول هذه الأعمال. غير أنّ الأمسية لم تكن كلاسيكية نقية إذا صحّ التعبير، إذ شارك فيها عازف العود التونسي فاضل مسعودي.
درست رشا عرودكي العزف على البيانو في معاهد عالمية مرموقة، مثل «المعهد الوطني العالي للموسيقى» في باريس حيث تعيش، و«معهد تشايكوفسكي» في موسكو. تتمتع إضافة إلى الموهبة الفنية والقدرات التقنية، بشخصية مميّزة يحتاج إليها الفنان الكلاسيكي لتحقيق إضافة على زملائه الكثر. وقد تكون أبرز محطة في مسيرتها لغاية الآن هي موافقة العازف العملاق موراي بيرايا على أن تكون من تلامذته، وهم قلة، وذلك لسنوات. طبعاً من يعرف بيرايا، يدرك بالتأكيد مدى أهمية أسرار المهنة التي أفصح عنها الأخير لتلميذته الشابة الواعدة، ليس بينها أهم من تلك المتعلقة بأداء موزار وباخ.
في الأمسيات الحية، لم تهمّش رشا أياً من الحقب الموسيقية الكلاسيكية، بدءاً من الباروك، وصولاً إلى مطلع القرن العشرين، وذلك من خلال إدراج أعمال لمعظم الكبار في برامجها (باخ، موزار، بيتهوفن، لِيسْت، تشايكوفسكي،...). غير أن ريبرتوارها المسجّل انحصر لغاية الآن في مندلسون (أحد الرموز الرومنطيقية) وسكريابين (من كبار الفرع الكلاسيكي الروسي) ومؤلفَيْ حقبة الباروك المرموقيْن سكارلاتي وهندل.
مساء الثلاثاء المقبل إذاً، تقدّم رشا عرودكي أمسيتها الأولى، في عزف منفرد. الجزء الأكبر من البرنامج أتى متوقّعاً، إذ اختارت من عند هندل (1685 ـــ 1759) مجموعة من المتتاليات التي مثلت محوَر إصدارها المسجّل الأخير. كذلك تبقى في عصر الباروك، لكن بوجهه الفرنسي الأشهر هذه المرة، وتؤدي أيضاً متتالية من ريبرتوار المؤلف الكبير جان ــ فيليب رامو (1683 ـــ 1764). هنا يمكن أن نستنتج أمريْن محتمليْن. الأول، هو أنّ الـ«بيس» سيكون من عند سكارلاتي على الأرجح، إذ أن سوناتاته تصلح هنا لهذا الغرض بما أنها قصيرة، جميلة وتناسب أجواء الأمسية. الثاني، هو أنّ أسطوانتها المقبلة قد تكون مخصّصة لرامو، ليكتمل بذلك تحضيرها لخوض تجربة باخ بعد أن تكون قد حامت حول صومعة المعلم الألماني قبل طرْق بابه.
الإطلالة اللبنانية الثانية لرشا عرودكي ستكون مساء الجمعة 21 تشرين الأول (أكتوبر) في «كنيسة القديس يوسف» (مونو) مع «الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية». يتألف برنامج الأمسية من جزءيْن. الأول تؤديه الأوركسترا بقيادة فاهان مرديروسيان، والثاني تشارك فيه عرودكي عازفة على البيانو. في الجزء الثاني لن يكون هناك حاجة إلى الأوركسترا بكامل عتادها وعديدها، إذ اختارت رشا عمليْن من فئة الكونشرتو (الرقم 4 و5) لباخ، الأمر الذي لا يتطلّب أكثر من مجموعة موسيقى حجرة قوامها الوتريات بالدرجة الأولى. مع الإشارة إلى أن البرنامج الذي نشر في البداية لحظَ كونشرتو البيانو الثاني للفرنسي سان ــ سانس، قبل أن يُستبدل برائعتيْ باخ. الجزء الثاني من البرنامج تنفرد فيه الأوركسترا، ويقع تحت عنوان الباليه. هكذا يقود فاهان مرديروسيان عمليْن من كلاسيكيات هذه الفئة، هما «طائر النار» لسترافينسكي و«دافنيس وكلوّيه» (المتتالية الثانية) لرافيل. بخلاف الجزء الأول من البرنامج لناحية حجم الأوركسترا، تفرض هاتان المجموعتان من المقطوعات الأوركسترالية جهوزيّة فوق العادة لكامل الموسيقيين. فسترافينسكي كما رافيل، فتح هنا تحديداً، في مجال الكتابة المعقدة، أبواباً لم تكن تعرفها الأوركسترا من قبل. وإذا كان باخ يمثل لعرودكي كما لفاهان تحدياً في التعامل الفائق الدقة مع مواد باخ المقدّسة، فالقائد الأرمني الأصل يواجه «وحيداً» أصعب امتحانات مجاله. وهنا يجب القول إن مرديروسيان بات يتمتع برصيد كبير في قيادة الأوركسترا، غير أن شهرته العالمية ما زالت مرتبطة بالمرحلة الأولى من مسيرته كعازف بيانو محترف له العديد من التسجيلات (باخ، شوبرت، برامز وغيرهم).



رشا عرودكي؛ 7:30 مساء 18 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي ـــ «قصر الصنوبر» (بيروت).
رشا عرودكي والأوركسترا الوطنية بقيادة فاهان مرديروسيان؛ 8:30 مساء 21 الحالي، «كنيسة القديس يوسف» (مونو/ بيروت).