يصعب العثور على بدايات واضحة في تجربة سلوى روضة شقير (1916). كأنّ هذه النحّاتة والتشكيلية اللبنانية الرائدة ولدت ناضجة وكاملة تقريباً. كأن فنها كان ينتظرها. جزء أساسي من نبرتها الريادية والطليعية متحصل من اشتغالها على مشروع ظل حديثاً ومعاصراً رغم عبوره مراحل وحساسيات وممارسات مختلفة. الإحساس بحداثة ما نراه هو أول انطباع يخطر لنا في المعرض الاستعادي الضخم الذي يحتضنه «مركز بيروت للمعارض». بعد تجربة قصيرة في محترفي عمر الأنسي (1901 ــــ 1969) ومصطفى فروخ (1901 ــ 1957)، تأكدت سلوى شقير من ازدرائها المبكر للمحاكاة الواقعية كمبدأ للرسم. أعمالها الأولى العائدة إلى حقبة الأربعينيات تخلو من واقعيات المنظر والبورتريه والمشهديات الانطباعية التقليدية. رسمت شقير بإيعازات مختلفة ستعرف لاحقاً أنها غير محلية. رسومها المائية وكروكيات الفحم في تلك الفترة كانت أقرب إلى مناخات بول كلي وميرو وبراك، لكنها معرّضة لتعديلات تحوِّلها إلى ممتلكات شخصية أيضاً. ممارسة كهذه سرعان ما وجدت فضاءها اللائق في التجريد الهندسي، لكن ليس قبل أن تجد له جذوراً في فنون العمارة الإسلامية. كان طموحها أن تنجز فناً مجرداً خاضعاً لمعادلات بنيوية ناتجة عن حضور الشكل من دون أن تقع في الزخرفة المجانية.معرضها البيروتي الأول (1947) الذي ضم مائياتها التجريدية الأولى استُقبل بفتور وسوء فهم كانا بالنسبة إليها برهاناً على فرادة طموحاتها. أثناء دراستها في باريس (1948 ـــ 1951)، اكتشفت أن التجريد الهندسي الذي راح يطغى على التجريدات الغنائية في الغرب، موجود في الفن الإسلامي. هكذا، بدا لها أن «أبحاث كاندنسكي حول النقطة والخط هي أبحاث قام بها الفنان المسلم منذ القرن الأول للهجرة». لم يكن ذلك تمجيداً للروحانيات الموجودة في التكرار الخالد للخطوط والمقرنصات والأقواس الإسلامية، بل بحثاً علمياً وتشريحياً عن التجريدات المدسوسة في طياتها. رؤية طليعية كهذه لن تؤخِّر صاحبتها عن إدارة ظهرها للرسم، والانخراط على نحو كلي في النحت والمجسمات والمصوغات اليدوية.
عايشت سلوى روضة شقير الأفكار الأكثر راهنية في التجريد. انحازت إلى شغل كاندنسكي وبيت موندريان وكازيمير ماليفيتش. عرضت أعمالها في صالات باريسية مختصة بالفن التجريدي. كان مقدّراً لها أن تحقق سمعة جيدة لو أنها بقيت هناك، لكنها عادت إلى بيروت لتجد حفاوة مستحقة لدى بعض النقاد والنخبة، وتواصل سوء الفهم السابق مع الجمهور العريض. معرضاها في قصر الأونيسكو (1962) والقاعة الزجاجية (1974)، كانا تحدياً قوياً للذائقة المحلية التقليدية، وقوانين السوق التشكيلية. كان شغلها «نيزكاً آتياً من مكان بعيد» بحسب تعبير جوزيف طراب، وكان «فناً مجهولاً لا بمعنى غير معروف بعد، بل بمعنى غير قابل للمعرفة» كما كتب جاك الأسود.
صاحبة المعارض القليلة، والمشاركات المتوّجة بجوائز عديدة في «صالون سرسق» السنوي، لا تزال أعمالها تحتفظ بدهشتها الأولى. هذا ما يتبدى في حشد أعمالها العائدة إلى مراحل مختلفة في لحظة عرض واحدة. ما نراه يصلح أن يكون متحفاً دائماً يؤرِّخ لتجربة الفنانة التي تقف على حدة في خارطة التشكيل اللبناني والعربي. لتسهيل المرور وتعقّب جرعات الخلود التي بُذلت في إنجازها، وُزّعت الأعمال على ثمانية أجنحة تتجاهل الترتيب الزمني لمصلحة المفاهيم والمواد التي اشتغلت عليها.
هكذا، سنرى تعبيراتها الواقعية المضادة للواقعية تحت عنوان «الملل من الواقعية: 1941 ـــ 1949»، ثم تجريداتها الهندسية الممزوجة بمفاهيم الفن الإسلامي بعنوان «مسار الخط: 1951 ـــ 1961»، وتحت عنوان «القصائد: 1960 ـــ 1968»، نرى منحوتات منجزة بتأثير شعري يتجلى في عناصر فخارية وخشبية متداخلة، ونرى استئنافاً لترجمة الفكرة الشعرية في منحوتات مؤلفة من عنصرين فقط في «الثنائيات: 1975 ـــ 1985». في «الوحدات: 1980 ـــ 1985»، تتحرر شقير من الأشكال الهندسية التقليدية وتقسم المنحوتة إلى وحدات يمكن تكرارها إلى ما لا نهاية، ونرى في «مسار القوس: 1970 ــ 1975»، مجسمات معدنية وبلاستيكية مصممة وفق جاذبية تأليفها، وتعكس افتتاناً فلسفياً بالفضاء الكوني.
في «مشاريع النحت بالماء والحدائق: 1970 ــ 1990» تدهشنا تصاميمها ونوافيرها المبتكرة للساحات العامة. بينما تصف مجسماتها في «المرحلة الأخيرة: 1990 ــ 1996» بأنها «خلايا DNA» يمكن استخدامها جزءاً من الأبنية والصروح. داخل هذه المراحل، نجد أعمالاً أخرى: قلائد وخواتم وأقراط وأكسسوارات خزفية وأغلفة دواوين وكتب. الأخيرة تترجم لنا علاقتها بالشعر العربي الذي كان يطرق أبواب الحداثة منتصف القرن الماضي. لعل أحداً لم ينتبه إلى أن ممارسات سلوى روضة شقير في النحت كانت جزءاً من ممارسات شعراء الحقبة ذاتها. بطريقة ما، تتلاقى فرادة تجريداتها ومنحوتاتها العابرة للزمن مع قصائد سعيد عقل وخليل حاوي وأدونيس وسواهم من أقرانها الشعراء. هكذا، يمكن مقارنة تقديسها للشكل مع تمجيد الشعراء للاستعارة. أعمال سلوى روضة شقير هي نصوص تجريدية ونحتية.

سلوى روضة شقير: حتى 13 ت2 (نوفمبر) المقبل ــــ «مركز بيروت للمعارض» (بيال) ــ للاستعلام: 01/980650
www.beirutexhibitioncenter.com