طوال 72 عاماً، ثمة سيدة عبرت مدناً كثيرة. غنت للثورات وللأوطان وللحبّ، صافحت رؤساء وعايشت عمالقة الزمن الجميل، وخاضت زيجتين وعانت أمراضاً وعمليات كثيرة وأحاطت بها الأضواء من كل صوب. إنّها أكثر من حياة تلك التي عاشتها وردة محمد الفتوكي (1939).بنضارتها وحيويتها، لا تزال تلك المرأة تمتلك سحر مَن يعرف ولا يدّعي، وتلقائية من يقف على أرض صلبة من الثقة بالنفس. بسرعة، وبرقّةٍ آسرة، تتوصّل وردة الجزائرية إلى فضّ الارتباك الذي قد يستحوذ على مُحاورِها. صحيح أنها تلك العملاقة التي غنّت مرةً «بلاش تفارق» لساعتين على المسرح، لكنها أيضاً أمٌّ وجدّة و«أجدع مين يطبخ» بشهادة ابنها رياض الذي كان حاضراً خلال لقائنا بها في أحد فنادق العاصمة أمس، قبل أيام من حفلتها البيروتية (الجمعة 2 أيلول/ سبتمبر).

تشيد الفنانة الذواقة التي تتقن إعداد الحريرة والكسكسي والأرنب، بطعم النبيذ في الطبخ، فهو «يضفي مذاقاً رائعاً على اللحوم». هكذا تقضي وقتها في منزلها المطل على النيل في مصر: «في الطبخ، ومع القطط التي أربيها وأحبها كثيراً، ومع أغانيّ القديمة. هذه الفترة، أردّد كثيراً أغنية محمد الموجي «بس لازم نفترق»، وبليغ حمدي «بودّعك»» كما تقول بتأثّر.
في لحظة من اللحظات، دفعها المرض، وعملية زراعة الكبد التي خضعت لها عام 2001، إلى الاعتقاد بأن حياتها الفنية انتهت. «أقفلت يومها منزلي في القاهرة وقصدت الجزائر حيث قضيت 4 سنوات من النقاهة مع ابني وأسرته. كنت أتلهى خلالها بمشاهدة التلفزيون والطبخ والغناء في الحديقة». إلا أن اتصالاً تلقته من لجنة «مهرجانات بعلبك» قلب الموازين بعدما دعيت إلى إحياء حفلة ضمن فعاليات المهرجان عام 2005. عندها، «قلت لأ، الدنيا ما خلصتش». إضافة إلى أن والدتها لبنانية، تعترف وردة بأنها تكنّ عاطفة خاصة للبنان، فهو البلد الذي أعادها إلى جمهورها قبل ست سنوات. يومها، وقفت بين هياكل بعلبك، وعادت مجدداً إلى الأضواء. لم تكن تلك المرة الأولى التي تنطلق فيها وردة من لبنان. هذا البلد محطة أساسية مرت بها في أواخر الخمسينيات. يومذاك، كانت أسرتها قد أُبعدَت لتوّها من فرنسا، بعدما اكتشفت السلطات مخزناً لأسلحة الثوار في حانة «تام تام» التي يملكها والدها المقاوم الجزائري.
بين بيروت ودمشق، بدأ يسطع نجم الصبية ذات الصوت الخلاب. «بدأت مشواري بأغنيات ثورية»، تقول. تروي بفخر كيف استدعاها «الريس» كما يحلو لها أن تنادي الرئيس جمال عبد الناصر، لتأدية كوبليه طلب إضافته خصيصاً لها كي تؤدّيه في أوبريت «الوطن الأكبر» عام 1958. وقع اختيار «الريس» عليها بعدما سمعها تغني «أنا من الجزائر أنا عربية» و«كلنا جميلة» على أثير الإذاعة السورية أيام الوحدة بين مصر وسوريا. من ذلك المنبر أيضاً «اصطادها» المخرج والمنتج المصري حلمي رفلة للمشاركة في فيلمه «ألمظ وعبده الحامولي» (1962).
«أنا أول فنانة من المغرب العربي تقصد مصر بعد الراقصة ليلى الجزائرية التي شاركت في أعمال مع فريد الأطرش» تقول وردة التي لا تحسب حساباً للحدود بين مشرق ومغرب، أو بين شرق وغرب. بالنسبة إليها لبنان «في دمي»، ومصر ـــ حيث «الثورة كان لا بد منها» ـــ هي «حبيبتي»، وباريس «بتاعة طفولتي». أما الجزائر فهي العشق الأكبر الذي ورثته عن الوالد.
«بابا علمني أن أحب بلادي وأنا مقيمة في باريس». ورغم كل ما جرى لبلد المليون ونصف مليون شهيد على يد المستعمر الفرنسي، إلا أنه «على المرء أن ينسى الماضي وألا يربّي أحقاداً». وكيف ستربّي أحقاداً تلك المرأة التي يتلألأ في عينيها مزيجٌ طفولي من الطيبة والتسامح؟ حتى أخطاؤها لا تتنكّر لها، لكنها لا تجلد نفسها باستذكار أخطاء الماضي، فـ«القدر يؤدي دوراً هنا».
قد يكون للأقدار يدٌ في حياة تلك المرأة. لكن عزيمتها احتفظت دوماً باليد الطولى في تقرير مصيرها. في باريس، حين بدأت موهبتها تظهر مع انكبابها على شراء أسطوانات محمد عبد الوهاب، اكتسبت الفتاة ثقة زائدة بالنفس جعلتها «قليطة وشايفة نفسي» بحسب التعبير المصري الذي تستخدمه. ما دفعها إلى اعتبار جميع المشاركين في صف الموسيقى من أساتذة وتلامذة دون مستواها. رغم تلك الثقة، بكت ابنة السنوات العشر حين دُفعَت دفعاً من الكواليس إلى المسرح، وزُجَّت أمام الميكروفون خلال إحدى الحفلات المدرسية التي شاركت فيها عام 1949. لكن، بعد وصلة البكاء المقتضبة، أدّت الصغيرة أغنيات لأسمهان، فأطربت الجمهور وحظيت بتصفيق حارّ. هكذا بدأت علاقتها مع الجمهور التي تعزّزت لاحقاً في لبنان. هنا، مع بداية مشوارها «تعلّمت التواصل مع الجمهور وتوالفت معه». أغنيات الحب التي بدأت تؤديها خلال إقامتها القاهرية الأولى مطلع الستينيات، قد تكون قرّبتها أكثر من الجمهور. منذ وصولها إلى مصر، تلقفها كبار الملحنين مثل رياض السنباطي الذي قدم لها «يا حبيبي لا تقل لي»، وربطتها به مودة دفعتها إلى إطلاق اسم رياض على ابنها تيمناً به.
في منتصف الستينيات، ستحملها «الأقدار» مجدداً إلى الجزائر حيث تزوجت الدبلوماسي جمال القصيري الذي اشترط عليها عدم إكمال مسيرتها الفنية. لكن، بعد سنوات رُزقَت خلالها ولديها رياض ووداد، ستعود «عزيمتها» وتتحكم بمسار الأمور، مع تلبيتها دعوة الرئيس هواري بومدين للغناء في احتفال عيد استقلال الجزائر عام 1972. هكذا قرّر الزوج ألا يقف في وجه مستقبل زوجته الفني، ليقع الطلاق حبيّاً، على أساس «اتفاق أكبر من ذلك الذي جمعنا في الزواج» تقول ضاحكةً. ذلك حدثٌ أرّخ لمرحلة جديدة في حياة الفنانة التي سرعان ما ستعود إلى القاهرة نجمةً في عز تألقها. ليس فقط لأن زواجها بالملحن بليغ حمدي عاد عليها بالأغاني التي ستصنع مجدها الفني، بل لأن وجودها في القاهرة سيسهّل تعاملها مع أهم الكتاب والملحّنين.
مع بليغ الذي كان «زوجاً فاشلاً، لكنه عبقري مزيكا وفن»، سيستمتع الجمهور بأعمال مثل «إسمعوني»، «وحشتوني»، «بلاش تفارق»، «لو سألوك»، و«العيون السود». كذلك ستغني المكتبة الموسيقية العربية بأعمال أخرى مثل «أكدب عليك لو قلت بحبك لسه» مع محمد الموجي، و«لولا الملامة»، و«في يوم وليلة»، و«إسأل دموع عينيا»، و«أنده عليك»، والأوبريت الوطنية «الجيل الصاعد» من ألحان عبد الوهاب. سيد مكاوي أيضاً أعطاها «أوقاتي بتحلو»، و«قلبي سعيد»، و«شعوري ناحيتك»، إلى جانب بعض الأفلام التي شاركت فيها مثل «أميرة العرب» (1963).
«جمهوري يشمل الكبار والأصغر سناً»: تدرك وردة ذلك. جيلان ينتظران اليوم ألبومها «اللي ضاع من عمري» (روتانا) بعد عيد الفطر. إلا أنّ وردة تعدنا منذ الآن بألبوم آخر هو «أيام» الذي عشقته، وتعذّر إصداره بسبب خلاف بين الملحن بلال الزين و«روتانا». هل تفكّر وردة في الاعتزال؟ «نعم، بعد كل عملية أخضع لها»، تقول، لكنّ بريقاً في عينيها يقول لنا عكس ذلك. كم نود أن نستمع إلى وردة أيضاً وأيضاً. أقرب موعد معها، سيكون ليلة الجمعة في «أسواق بيروت».



5 تواريخ

1939
الولادة في باريس

1958
شاركت في أوبريت «الوطن الأكبر»

1962
أدت دور ألمظ في فيلم حلمي رفلة «ألمظ وعبده الحامولي»

1972
لبّت دعوة الرئيس هواري بومدين إلى الغناء في حفل عيد استقلال الجزائر، وتطلّقت من زوجها فعادت إلى مصر، حيث تعاونت مع رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي ومحمد الموجي وسيد مكاوي وبلغت قمّة النجاح

2011
تحيي حفلة مساء 2 أيلول (سبتمبر) في «أسواق بيروت» وتصدر ألبومها «اللي ضاع من عمري» بعد الفطر.

تم تعديل النص عن نسخته الاصلية بتاريخ 1 أيلول 2011