في وقت يراد للقدس فيه أن تكون خاوية مهجورة، هامدة تنهشها أسنان الموت، يصبح تنشيط الثقافة في المدينة فعلاً جَسوراً، يعاند عوامل التغييب والتبديد، ويشتبك مع الغثاثة والزيف، ويجعل الحرّاثين مضطرين في أكثر الأحيان إلى الانشغال بإزاحة العراقيل، واجتثاث العشب الضار، بدل التفرغ لزرع وردة أو إضاءة قنديل. رغم العراقيل الأشد قبحاً من السور الاسمنتي، قررت مجموعة من أبناء مدينة القدس التخلي عن مهنة التشكي المضجرة، كي تزرع حلماً صغيراً خالياً من الادعاء والمغالاة. فضّل هؤلاء أن يسخّروا وقتهم لإشعال شمعة تضيء سماء القدس.
وفي عام 1995، جاءت المبادرة لإنشاء مؤسسة ثقافية في ظروف شائكة ومتعبة، وفي أوضاع تستدعي استعداداً نفسياً، وثقافياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً استثنائياً بكل معنى الكلمة. حملت هذه المؤسسة اسم «يبوس»، نسبة إلى إحدى القبائل الكنعانية التي بنت أول مدينة على موقع القدس الحالي قبل 5000 عام، لتمنح الهوية وهجها وتؤكد أصالتها.
وقد استطاعت «مؤسسة يبوس» أن تنجز برامجها ومشاريعها الفنية بمستوى متميز من الأداء، برز في المهرجانات، والمواسم الموسيقية، والمؤتمرات، والمنتديات المحلية والعربية والعالمية التي أقامتها خلال السنوات السالفة. وسبب هذا التميز في أدائها الإداري والمالي هو المراعاة القصوى للأصول المهنية. وبناءً على السجل الإيجابي في تاريخ المؤسسة، حظيت بالثقة والصدقية من قبل مختلف الأطراف التي تتواصل معها، وهو ما جعلها أقوى وأفضل المرشحين للإمساك بزمام أهم مشروع ثقافي في مدينة القدس منذ احتلالها، ألا وهو المركز الثقافي الذي تحملت عبئه الكامل رغم صعوبة الظروف. وقع الاختيار على أن يقام هذا المركز في مقرّ سينما القدس سابقاً، في شارع الزهراء، وكانت الصالة مخصصة لعرض الأفلام التجارية، حتى إغلاقها في عام 1987 مع اندلاع الانتفاضة الأولى.
ولتنفيذ هذا المشروع وتوفير الدعم المالي اللازم له، جرت اتصالات مكثفة مع جهات محلية وعربية ودولية معروفة بنزاهتها، ودعمها للقضية الوطنية الفلسطينية، من أجل الحصول على تمويل لهذا المشروع الكبير، بعيداً عن أي شروط سياسية، قد تسعى إلى ترويض «يبوس»، أو تعمل على جرِّها للانخراط في مشاريع تطبيعية. تعتبر «يبوس» طرفاً مهماً وفاعلاً في مناوءة مشاريع التطبيع، وفي التأسيس للجان والحملات المناهضة لها.
ولا يضير «يبوس» أن تلجأ إلى أي ممول محلي أو عربي أو أجنبي، للحصول على تمويل لمشاريعها الثقافية، ما دام التمويل غير مشروط، ولا يحرفها عن أهدافها التي نذرت نفسها لتحقيقها. مصادر تمويل الثقافة في القدس تزداد انسداداً، ويتقلص حجمها باستمرار، ما يستدعي بذل جهود مضنية من أجل الحصول على التمويل اللازم. واللجوء إلى طلب التمويل ليس سلوكاً «يبوسياً» خالصاً، بل هو سلوك جمعي، تمارسه كل المؤسسات الثقافية وكل الفرق وجميع الفنانين الفلسطينيين على العموم، وفي القدس على وجه الخصوص. ولولا هذا التمويل، لما عرضت مسرحية، ولا نظِّم معرض، ولا انعقدت ورشة، ولا التأم مؤتمر.
من أهم وأبرز الفعاليات السنوية التي واظبت «يبوس» على تنظيمها «مهرجان القدس» الذي أصبح تقليداً ثقافياً سنوياً، يحظى بسمعة رفيعة بين الجمهور الفلسطيني. وهذا المهرجان موسيقي فلسطيني عربي عالمي، تموله جهات فلسطينية (راجع الإطار).
حتى العام الماضي، كان يقام المهرجان في موقع أثري تاريخي هو قبور السلاطين في شارع صلاح الدين، مملوك من قبل القنصلية الفرنسية العامة في القدس. ويعود تاريخ هذا الموقع إلى عهد الملكة «هيلين» ملكة بلاد ما بين النهرين في عام 45 قبل الميلاد. وتم إهداؤه في عام 1886 إلى الحكومة الفرنسية. ولا يملك أي شخص أن يمنع القنصلية الفرنسية من رفع العلم الفرنسي في هذا المكان، وإلا لأصبح من المنطقي أن يطالب بعضنا بإنزال الأعلام عن جميع المباني المستأجرة ــــ وليست المملوكة ــــ من قبل القنصليات والسفارات والممثليات والمكاتب والمؤسسات الدولية في القدس ورام الله وغزة وغيرها من المدن الفلسطينية.
أما في هذا العام، فلم يكن العلم الفرنسي مرفوعاً في مكان المهرجان، لأنه لم يقم أصلاً في قبور السلاطين، بسبب أعمال الترميم التي تقوم بها القنصلية الفرنسية في الموقع. بل أقيم في ساحة «مؤسسة دار الطفل العربي». هذه المؤسسة العربية الفلسطينية العريقة التي أسستها المربية الفاضلة والمناضلة المجتمعية والوطنية الكبيرة المرحومة هند الحسيني، قدمت تسهيلات استثنائية لـ«يبوس» من أجل إنجاح المهرجان.
يحمل مهرجان القدس صفة العالمية، ويحرص على استضافة فرق وفنانين عالميين، يتميزون بالرقي والعراقة، ولديهم مواقف واضحة في دعم الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية. وكانت لبعضهم تصريحات تضامنية واضحة وقوية، تركت أثراً ملموساً على المستوى الإعلامي. ولم يحدث أن شارك أي فنان عربي في مهرجانات إسرائيلية، قبل مشاركته أو بعد مشاركته في «مهرجان القدس».
ومن الطبيعي أن يكون من بين جمهور المهرجان أجانب، نرحب بهم وندعوهم للحضور. لأننا عندما نستضيف فرقاً عالمية، فإن الكثيرين من الناس يرغبون في الاستمتاع بأداء هذه الفرق. وعندما تكون لدينا فرق محلية متميزة وراقية، وتحظى باهتمام وإقبال جماهيري من قبل الأجانب مثل الجمهور المحلي، فهذا أمر يسعدنا. وبما أننا نعتبر «مركز يبوس الثقافي» بوابة جديدة للقدس، ونرفع شعار فتح الأبواب وبناء الجسور، فإنّ حضور مثل هذه الفرق وهذا الجمهور يحقق هدفاً مركزياً مهماً من أهدافنا، وهو تعريف جمهورنا بفنون العالم وتعريف العالم بفنوننا.
كذلك فإنّ الجمهور الذي يحضر فعاليات المهرجان هو جمهور محلي في أغلبه، ويحرص على حضور ومتابعة الأمسيات الموسيقية باندفاع وحماسة شديدين، رغم الحواجز والعقبات الكبيرة. كما لم يحدث أن أقامت «يبوس» عملاً مشتركاً مع أي جهة لا تتفق معها في الأهداف الوطنية. ومن المفيد التأكيد هنا على بعض الحقائق: لم تخضع المؤسسة للشروط والابتزازات التي يمارسها بعض الممولين، لم يشارك أي مسؤول أو موظف فيها في أي عمل مشترك مع مركز إسرائيلي، لم تصدر أي نشرة يمكن أن تساهم، بشكل أو بآخر، في الترويج للتطبيع. وبسبب هذا الموقف المبدئي دفعت «يبوس» وما زالت تدفع ثمناً باهظاً...
كان الاسم في البداية «مؤسسة يبوس للإنتاج الفني»، ومنذ منتصف هذا العام أصبح الاسم «مركز يبوس الثقافي». وهذا المركز له شخصيته المستقلة إدارياً ومالياً وفنياً، وله رؤيته العامة التي تندرج في سياق المشروع الثقافي الفلسطيني، والتي تنسجم مع المشروع الوطني العام. ولأجل المنفعة العامة، وخدمة لقضايا شعبنا المحقّة، يواصل «مركز يبوس الثقافي» إضاءة شمعته. وليرتع الزبد هانئاً في الجفاء...
* مدير المشاريع
في «مركز يبوس الثقافي»



هؤلاء هم المموّلون

يؤكّد خالد الغول أن «يبوس» التي تشرف عليها رانية إلياس، تقوم على دعم مؤسسات «تساهم في تمويل أهم المشاريع الثقافية والتنموية الفلسطينية». ومن هذه الجهات، إلى جانب المؤسسات الدوليّة المعروفة، «مؤسسة التعاون»، و«شركة فلسطين للتنمية والاستثمار» (باديكو)، و«بنك فلسطين»، و«البنك الإسلامي للتنمية»، و«مؤسسة عبد المحسن القطان»، إضافة إلى داعمين أفراد من المواطنين المقدسيين.