مرحلة مفصليّة حاسمة في ولادة المسرح اللبناني الحديث، تلك التي وثّقتها خالدة سعيد في «منير أبو دبس والحركة المسرحية في لبنان 1960 ـــ 1975». صدر الكتاب بطبعته الأولى عن «لجنة مهرجانات بعلبك الدولية» و«دار الآداب». وفي مناسبة اليوبيل الذهبي للمسرح اللبناني، وتكريم منير أبو دبس، أعادت «مدرسة المسرح الحديث» بالتعاون مع «جمعية شمس» و«دار نلسن» توزيع الكتاب.تعرض الناقدة المعروفة في بحثها قصّة البداية، حين كان منير أبو دبس يعمل في التلفزيون الفرنسي في باريس، حيث التقى رينيه أوري، أحد مؤسسي «شركة التلفزيون اللبنانيّ». عودته إلى لبنان أسهمت في لقائه المسرحي أنطوان ملتقى، وبداية العمل بينهما. وتعرّف كذلك إلى تشكيليين ومسرحيين وشعراء أمثال عارف الريس، وناظم جبران، وجلال خوري، ورضى خوري، وأنطوان كرباج... إضافةً إلى أنسي الحاج، ويوسف الخال، وأدونيس الذين ترجموا أعمال أبو دبس الأولى.
في كتاب سعيد إشارات إلى الينابيع التي نهل منها الرائد المسرحي الآتي من فرنسا. تأثر برمزية إدوارد غوردون كريغ الذي جعل المسرح ساحة للظلال، والفضاء، والحركة. وتأثّر أيضاً بطقوسية أدولف أبيّا الذي وجد في الصالة المسرحية «كاتدرائية المستقبل». ونهل كذلك من المذهب الطبيعي عند ستانسلافسكي، فكثّف أبحاثه في النظرة إلى التّقنية الداخلية، وحجب أبحاثه عن التقنية الخارجية وكل ما يتصل بالمرونة الجسدية والرشاقة والإيقاع أو الذاكرة الجسدية.
بين ستانسلافسكي وكريغ، نظر أبو دبس إلى المسرح والممثل، مركزاً على تقديم الحقيقة الداخلية للممثل. يقول منير: «هذا الممثل يتحرّك على خشبة عارية أو خشبة معمارية، رمزية، إشارية، فيها تتكفَّل الإضاءة بتشكيل المشهد القائم على لعب الظلال والأضواء (...) التجريد عنده يبلغ حدّاً بعيداً؛ لأنّ الأشياء حاضرة بمعانيها، غائبة بذواتها. والمعنى ينبغي أن يطلّ من خلال فتحة ضوء محددة مدروسة، أو كأنما من وراء قناع، فلا ينسكب أو يندلق مجاناً، بل يتشكَّل»، يقول أبو دبس.
وصفت سعيد رؤية منير المسرحية بالمتكاملة، بدءاً من مفهوم المسرحة وعلاقة الخشبة والمشهد المسرحي بالعالم، وصولاً إلى علاقة النص بالعرض المسرحي والسّينوغرافيا، ودور الممثل في العملية المسرحية، ومنهج إعداد الممثل. «لقد كان منير، المخرج المسرحي اللبناني الأول بالمعنى الحديث، حيث المخرج هو مؤلف العرض المسرحي ومبدعه، ينصاع لرؤيتهِ الممثل والنص والسّينوغرافيا، ويقدم في رؤيته للنص رسالته التي ربما طغت على رسالة النص نفسه».
يسلّط الكتاب الضوء على علاقة أبو دبس بـ«مهرجانات بعلبك الدولية»، ثم تأسيسه «مدرسة المسرح الحديث»، والانفصال عن بعلبك لاحقاً. ولم يأتِ انفصال أبو دبس من حيث المكان فحسب، بل من حيث التّوجه إلى رؤية مسرحيّة جديدة، أكثر استقلالية، توّجت بآخر أعماله «الطوفان» عام 1975. استعادة ضرورية لتجربة منير أبو دبس الرائد، في مناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي للمسرح اللبناني هذا العام. لكن أين أمضى أبو دبس السنوات التي لم تدوّنها خالدة سعيد؟ كيف حمل تجربته الأولى لينتقل إلى المسارح العالمية؟ أين وصلت أبحاثه في الرؤية المسرحية لإعداد الخشبة والممثل والسّينوغرافيا؟

* باحث لبناني، منسق «مهرجانات الفريكة»