الشرّ بعيد، كما يُقال بالعاميّة. لا نكتب رثاءً للرفيق خالد صاغيّة. هو لا يحب لفت الانتباه إلى شخصه: تواضعه وميله نحو الخصوصيّة جزء من شخصيّته. لكن وجود خالد في «الأخبار» ضروري لانتشارها ونجاحها، والبناء عليه. لن أنقل ما كتبتُه له في رسالة خاصّة: لكن، أترضى يا خالد أن تشهد ما يمرّ به العالم العربي من على متن أريكة أمام شاشة التلفزيون؟ ولبنان المزعج مُقبل على تحوّلات وتغييرات مثيرة: أترتضي أن تقرأ ما يُكتب عنها من دون أن تشمّر عن ساعديك؟ من غيرك يسخر من سخافات ساسة لبنان وغبائهم؟ من غيرك يلفت إلى المفارقات في الخطاب السياسي؟ ومن غيرك يصل الوضع اللبناني بالانتفاضة السوريّة؟ من يحافظ (بمهارة) على النفس المُقاوم والعلماني واليساري في آن؟ أنا أقول دوماً إنّ نجاح «الأخبار» يعود إلى معادلة كيميائيّة فريدة بين إبراهيم الأمين وخالد صاغيّة. شخصيّتان مختلفتان ذواتا خواص مختلفة ومتوائمة. واحد حادّ وتصادمي وشيوعي ومُستفِزّ، وآخر حاد بهدوء شديد وسخرية قاتلة وديموقراطيّة صحافيّة. قد لا تتفق الحساسيّة الديموقراطيّة (الثوريّة)، لا الليبراليّة التي يتمتّع بها خالد، مع مزاجي الفوضوي، لكنها كانت أساسيّة في جريدة «الأخبار»، وفي فتحها آفاق التعبير الحرّ. هو الذي ضمن فتح حيّز واسع تفتقر إليه صفحات الرأي في الصحف العربيّة. خالد صاغيّة نحن مدينون ومدينات له: عرف كيف يجعل من اليساريّة «كول»، كما فشل سعد الحريري في جعل الوهّابيّة «لايت» «كول» بين جمهوره. العنصر الشبابي في «الأخبار» كان خالد مُرشده (غير) الروحي. نكهة خالد صاغيّة هي نكهة «الأخبار»، ورحابة صدر الجريدة تعود إليه وإلى مزاجه (لعلّ الرحابة ليست من شيمي).
خالد صاغيّة أخذ مهنة الصحافة على محمل الجدّ: وليس هذا بالأمر اليسير. لم يستقل خالد طمعاً في عرض مالي من جريدة نفطيّة. ولم يستقل احتجاجاً على إهانة أمير عربي، ولم يستقل طمعاً في مكتب يطلّ على البحر. لا. خالد استقال، كما روى بصدق إبراهيم الأمين، طمعاً بالمزيد من الحريّة التي أرادها ليس له وحده، بل لقرّاء جريدة «الأخبار» وللشعب السوري. أراد خالد ــــ لا، أصرّ خالد على ـــ أن يكون حرّاً في عصر الهتاف للحريّة. لم يستطع أن يتجاهل معاناة الشعب السوري.
لا أخفي أنني أخشى على «الأخبار»، ومنها من دون خالد. التحدّي ليس سهلاً. كنت في كل زياراتي له في بيروت أسأله بالتفصيل عن أمور الصحّة والطعام والرياضة والإرهاق. أردت له أن يستمرّ في الجريدة لثمانين حولاً، على الأقل. أي إن سبب استفساري لم يكن بدافع شخصي محض. ومن يعرف خالد يعرف أنه عنيد، ومُستقلّ في رأيه. لكنني أكتب بالنيابة عن نفسي، وعن بعض العاملين والعاملات في الجريدة من الذين تواصلت معهم أثناء «محنة خالد». طبعاً، إن اشتياق وليد جنبلاط المُفاجئ لخالد، ومديح بعضهم في 14 آذار له، يدخل في باب اللعبة السياسيّة التي لا علاقة لخالد أو لي بها.
إن عودة خالد في فصول «الربيع العربي» الدامي ضروريّة: له، ولنا وللشباب العربي، خصوصاً أنّ القسم الإنكليزي في الجريدة يعد بفتح علاقة جديدة بين الجريدة وجمهور عربي وغربي واسعين. لو كان بإمكاني أن أعد خالد بسقوط نظام عربي، أو اثنيْن، احتفاءً بعودته، لفعلت فوراً. هل تعود؟

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
angryarab.blogspot.com