ينتابني الآن إحساس عميق بالذنب لأني لم أفكر في أخذ رقم هاتفك أو عنوان إقامتك في بيروت تحسباً ليوم كهذا. منذ اتصالي الأخير بالجريدة، وأنا في حالة تشوّش مستمر. خالد نحتاجك اليوم في «الأخبار» أكثر من أي وقت مضى. الثورات التي أنجزت قطيعتها مع الديكتاتوريات عادت للنكوص مجدداً. هي اليوم انتفاضات فحسب. هذا في مصر وتونس حيث البنية المجتمعية متجانسة وناضجة سياسياً! أما في سوريا وليبيا واليمن فالحال أسوأ. التصدعات في الهوية الوطنية في هذه البلاد باتت واضحة للعيان. ولا يكفي أن نرمي الديكتاتوريات بتهمة الاشتغال على ذلك. لقد أنجزت المهمة منذ فترة، وهي ليست بحاجة إلى المزيد من الاشتغال عليها. هل أقول لك مثلاً كيف يصف أحدنا الآخر في الأحاديث المغلقة؟ صدّق أو لا تصدق، لم يعد أحد يتكلم عن هوية أو عن مواطنة سورية. نحن اليوم مسلمون ومسيحيون، علويون وسنّة ودروز واسماعيليون... لا تصدق كثيراً كلام الفضائيات النفطية وغير النفطية عن مآثر «وحدتنا الوطنية». أصلاً هذه الكلمة جزء لا يتجزأ من التراث الكلاسيكي لليمين الرجعي.
ماذا أفادتكم طقوس العناق بين الهلال والصليب في الحقبة الآذارية المقيتة؟ نحن اليوم نكرر الخطأ اللبنانوي ذاته بإعادة إنتاج هذه التعاويذ الاستهلاكية. وعلى من يريد الاستثمار في هذا الطقس الاستشراقي أن يعلم أنه لن يحصد منه سوى الريح. لا يمكن لأغشية هشّة كهذه أن تحمي وطنيّتنا المهدّدة. لقد استباحها النظام، ولاقته في ذلك المعارضة الكولونيالية العميلة لرأس المال النفطي. ماذا تفعل لو كنت مكاننا؟ تخيل معي المشهد الآتي: قمع لا حدود له، ردود فعل ثأرية مفهومة على القمع، أصوات تتسوّل التدخل الاستعماري، تكالب نفطي سعودي وقطري على نهش البلد، تصدع كامل في البنية المجتمعية السورية...
عزيزي خالد نحن نتجه الآن في حال سقوط النظام إلى نسق حكم هشّ وضعيف ومهيمن عليه بالكامل. كلّ المؤشرات تقول ذلك. حتى المعارضة بدأت تقرّ بهذا الأمر. سمعت قبل أيام ميشال كيلو يقول على «فرانس 24» (الرديئة جداً لأنها جزء لا يتجزأ من دعاية ساركوزي اليمينية) إن النظام «الجديد» سيكون على شاكلة النظم التي عرفتها المنطقة أواخر القرن التاسع عشر. أي نظام متوافق عليه من جانب القوى المهيمنة. ماذا نكون قد فعلنا حينها؟ أسقطنا النظام و«ربحنا» ديمقراطية صورية وسيادة متآكلة إلى أبعد الحدود. لنقل إنّه نسق شبيه إلى حدّ ما بالنسق اللبنانوي الرديء. كلّ هذا القرف يجعل الحديث عن الثورات أمراً خارج السياق.
يجب أن نعيد أولاً إنتاج هوياتنا الوطنية حتى يصبح للكلام عن الثورة مغزى فعلي. على الثورة أن تجد سياقها أولاً. والسياق ذاك لا يتسق مع الهويات الجزئية المتنازعة في ما بينها. لذلك بالضبط نحتاجك داخل «الأخبار» لا خارجها. مجرد وجودك الآن في الداخل معلّقاً ومصوباً للانحرافات يكفينا. شخصياً، لا يهمني إن اصطفّت الجريدة بالكامل مع الانتفاضة (لا الثورة) أم لا. هناك نزعة نقدية واضحة ضد همجية النظام، وهذا يكفيني. أتحدث عن نفسي طبعاً. فقد سمعت آراء مغايرة من أشخاص يشاطرونك الرأي في أنّ ذلك غير كاف. أنا أعتبره كافياً. سمّه ما شئت: تخاذل، انهزامية... عزيزي، بلدي الآن على كفّ عفريت، ولا أعرف، مثلي مثل كثيرين، وصفة جاهزة لإخراجه مما هو فيه. كلّ ما يمكننا فعله هو الاجتهاد وتقديم رؤى مغايرة للانشاء اللفظي الذي يتبجح به الطرفان: النظام والمعارضة. أما الشارع فيتحرك بعفوية مفرطة من دون حسابات معقّدة. وهنا الخطورة. إنّ وضعاً بهذا التعقيد يحتاج إلى أكثر من «الشعب يريد».
ماذا أقول لك بعد؟ عد إلينا يا رجل. كيف سأذهب المرة المقبلة إلى «الأخبار» ولا ألقاك في المكتب، مع الشاي والقهوة والنميمة الجميلة وأشياء أخرى كثيرة.

* كاتب سوري