ضِعْ في شغفك ولا تهتدِ. هنا الهداية انعدام والتيهُ خلاص.
■ ■ ■

أحد الفروق بين الجمال والسلطة: يؤلمك الجميل حيث يبدأ عجزك معه أو عجزه معك، وتؤلمك السلطة لأن خيانتها تسبق وعدها.

■ ■ ■

الجمال طاغية يُجنّح عبيده.

■ ■ ■

الجميلُ مَدينٌ للعاشق الذي يشعره بأنّه حامل سرّ. لكنَّ الجميل يبدأ بفقدان سحره عندما يصدّق أنّه حامل سرّ. مغناطيسُ السرّ براءةُ صاحبِهِ منه.

■ ■ ■

الرغبةُ بها تزيد المرأة حلاوة، وعشقها يزيدها جمالاً. أمّا المُلْهِمَة فذاتُ فتنة من نوعين: نوعٌ مرئيّ مُشعّ، وآخر يُغرقُ الناظر في جوٍّ يربط ذكرى غامضة بأملٍ غائم...

■ ■ ■

لا تحلم بالماضي إلّا إذا كنتَ متأكّداً من رغبتك فيه... لأنّه قد يعود.

■ ■ ■

أبداً لا يرتوي الجمال من الغوص عليه. كلّما راودتْ مجنونَه نيّة التوقّف، يهمس له بتلك الحروف الناريّة: «بَعْد! بعد!». أبداً لا يرتوي الجمال، وليس لديه غير الشعراء والملحّنين والمطربين والمصوّرين والنحّاتين وسائر بقايا عصور الفروسيّة ليمدّوه ببعض الثقة بنفسه. الجمال رجعي مهما تَعَصْرَن، لأنّه أسبقُ من أعمارنا. هَرِم حتّى أمست حاجته إلى الهَوَس به غذاءً حيويّاً.
يا كلّ مَن يحمل تحيّة إلى جمال، لا توجّهها إليه كأنّه البحر، بل تذكّر أنّه أكثر الكائنات العظيمة هشاشة.

■ ■ ■

التأليف بأيّ تعبيرٍ كان، نوعٌ من جنون الحياة. يوم تستطيع الحياة الإمساك بخناق الموت قد تنخفض لدى المؤلّف حمّى هذا الجنون ويكتفي من الخَلْق بالاستلقاء في ظلال السعادة، أو ربّما يتّجه التأليف نحو الانقراض. لدغةُ الموت هي التي تبذر في الإنسان بذرة محاولة تَرْك شيءٍ فوق القضاء والقدر.
قليلاً ما يفلح، وعندما يفلح ينتقم لكثيرين، بعد أن تكون تحوّلات عمله قد أَنْسَتْه هاجس البقاء.

■ ■ ■

«الجمالُ الطبيعي، يقول كانط، شيء جميل. الجمال الفنّي هو صورةٌ جميلةٌ عن شيء».
الفيلسوف يقلّل من شأن الخَلْق. الفلسفة تُفسّر والخَلْق يَصْنع، تُنظّر والخَلْق يرمي صاعقة. الجمالُ الفنّي ليس مجرّد صورة جميلة عن شيء، بل هو مخلوقٌ أجمل من خالقه. الخَلْق ليس انعكاساً لضوء القمر أو تقليداً لتغريد العصافير. الشيء الذي يخلقه الشاعر، والمفكّر الشعري، والفنّان، مهما اتّصلت جذوره بالواقع الخارجي، كائنٌ تخيُّليّ، ذهني، مثالي، يُلحّ على الخلّاق إلحاحَ الهاجس الذي يحفر حفراً، إلحاح يصرخ ليخرج من الهيولى.
أصعب ما في هذه الظاهرة هو سعي الخلّاق إلى القبض على اللحظة الواصلة بين تطلُّع الهاجس وقدرة مُلْتقطه. يدُ الخالق ويد المخلوق. وأصعب من هذا، وأجمل من هذا، أن المخلوق، أيّاً تكن درجة اكتماله، لن يكتفي بها وسيُشعر خالقه بأنّه كان عليه أن يبذل له جهداً أكبر. والأصعب أن الخالق، مهما «نجح»، سيصيبه إحباطُ الفرق بين ما فعل وما كان يريد أن يفعل. الناس، «القارئ»، «الجمهور»، «المتفرّج»، «الناقد»، لا يعرفون هذا الإحباط. والخَلْق نفسه أسهل منه.

■ ■ ■

نستسلم لإغراء الجمال لأنّنا لا نفهمه بل يبهرنا لغزه، يخيفنا لغزه. القاعدة هي أن يرخي المسحور العنان لانبهاره بالجمال، غير أن بعضنا يقاومه، وكدت أقول يكافحه ويسعى إلى إطفائه. لا عن تقشّفٍ روحاني أو اعتقادٍ ديني وإنّما عن اعتبار أيّ استسلام لسلطة الجمال هذه تغذيةً لضعفٍ في الإرادة ربّما تُعْرَف بداياته ولكن لا يُعرَف مداه. ألم تقرن أحياناً الأساطير القديمة والوقائع الحديثة بين الجمال والموت؟
لكَ أن ترى في الجمال حقّاً ولسواك أن يراه خداعاً. نحن مرايا للذات وللطبيعة، وما من مرآةٍ كالثانية.
وما من مرآةٍ هي ذاتها حين تتمرأى فيها مرّتين.

■ ■ ■

ذات يومٍ من شهر آذار 1937 قام توفيق يوسف عوّاد بزيارة لمحترف صديقه الرسّام قيصر الجميّل، وكتب مقالاً يقول فيه تأثّره باللوحات، ويروي عن لسان الجميّل كيف عرّج الفنّان على حي «الدركه» القريب من محترفه في وسط بيروت، وهو حيّ غاصٌّ بالحمّالين، «فجعل يتفرّس في الرؤوس المغطّاة بالسلال الكبيرة، ثم هجم على حمّالٍ وأمسكه من ذراعه وقال له: تعال! وقاده إلى المحترف. فإذا الحمّال (بعدما رسمه الجميّل) اثنان: واحد لا يزال حمّالاً ينقل حمله على ظهره ويأخذ كلّ يوم (أمتعة الوجهاء والنبلاء) من الأسواق إلى القصور، والثاني نبيلٌ لا يداني كرم محتده أحدٌ في الدنيا، هو هذا الرأس الدقيق الطالع من هذه اللوحة على الجدار الغربي من الغرفة، وهو عيناه الصافيتان البعيدتا الغور، وهو أنفه المستقيم الأنوف، وهو فمه الطافح بابتسامة القوّة والشرف والثقة».
ويختم صاحب «الرغيف» مقاله مخاطباً الفنّان بهذه العبارة: «أنا في غرفتك واقفٌ مشدوهٌ كأنّني آدمٌ جديد وقد وضع الله بين يديَّ خليقةً جديدة تنبض بالحركة الأولى، وتشعّ بالنور الأوّل، وتتنفّس بحرارة الحياة تنفّستها الأولى الطاهرة».
يبدو هذا الانطباع منطبقاً على إحساسنا أمام كلّ خَلْقٍ فنّي، من أضخم نماذجه إلى أكثرها تواضعاً. كلّ تكوينٍ إنّما يعيدُ التكوين، والنعمةُ تكمن في حظّ هذا الخلّاق أو ذاك من إضافةِ بُعْدٍ جديد إلى تعبيرات الجمال، بُعْد لم يكن مرئيّاً، ولكن الوجدان العام كان يشعر شعوراً ضبابيّاً بأنّه موجود، ويشتاق إلى ظهوره يوماً من الأيّام.

■ ■ ■

يستعيد الجميل ذكرى جمالٍ كان، جمال يُلحّ بمراودته إيّاك إلحاحاً شَبَحيّاً لا تقدر عليه، لا على طرده ولا على احتوائه، إلحاحاً مداعِباً ومرهقاً، واعداً ومراوغاً. لا يفي الجميل بحلمك فيه، غير خطْفة. إنّه الجسد الذي نعانقه دون أن يتجسّد.

■ ■ ■

أمام الجميل لستَ أنتَ بل كائنٌ يستيقظ فيه بغتةً شعور تظنّه خاصّاً ولكنّه مضاف إليك، شعورٌ حلّ فيك كشعاعٍ في زنزانةٍ لا يخترق جدرانها نور. تحمل هذا الشعاع كالمخبول وتحار كيف تتصرّف. تصطاد الجميل؟ تلتهمه؟ تجثو أمامه؟ تلمسه لتصحو؟
لا يعود إليك تقرير ذلك. إنّه شأن الجميل. شأن صلابة الوهم الذي لديه، ومقدار حاجتك إليه.

■ ■ ■

كلّما وَهَب جميلٌ نفسه لراغبه عاتبه شيءٌ فيه سيتلاشى.

■ ■ ■

تعرف لمَ هو الجمال؟ لأنّه الأبسط.

■ ■ ■

يجب أن تُعَلَّم كلّ امرأةٍ كيف حين تَهب نفسها تظلّ محتفظة بسرّها. ذلك واجبٌ مقدَّس كالأمومة.

■ ■ ■

يقترب الجمالُ من ذروته كلّما تعاظمت قدرته على إغراقنا في النسيان.

■ ■ ■

هنالك جمالٌ سليب: طفولةٌ حُرِمَتْ حمايتها. إنّه أخسر الجمالات لأنّه الأساس الذي يُبنى عليه البناء، وهو لا يُقدَّر في حينه وإنّما بعد أن يكون سليب تلك السعادة قد بلغ من الفهم حدود انكسار الظهر ومن الطعن في السنّ حدَّ الشلل من الأسى.

■ ■ ■

لا أبديّة أعمق من أبديّة العينين، وحين يموت الإنسان يغمضهما عليها.

■ ■ ■

الحقّ مسؤول، الخير مسؤول، الجمال ليس مسؤولاً.

■ ■ ■

جمالُ الطبيعة ظالم لأنّه دائم. الجمال الذي سيُظْلَم، جمال امرأةٍ أو فراشة، هو الأوقع في القلب. الزائلُ أروعُ من الخالد.