لم يغادر إرفين د. يالوم (1931) فضاء الفلسفة في كتاباته، مازجاً التحليل النفسي بالأسئلة الوجودية. بعد كتابيه «مشكلة سبينوزا»، و»علاج شوبنهاور»، نصب فخاخه حول فريدريك نيتشه وأدخله قفص التخييل الروائي هذه المرّة. في روايته «عندما بكى نيتشه» (1992) التي انتقلت أخيراً إلى العربية عن «دار الجمل» (ترجمة خالد الجبيلي)، سنلتقي فيلسوفاً آخر غير الذي عرفناه.
صاحب فلسفة «إرادة القوة» يبدو هنا رجلاً هشّاً ومكتئباً وسوداوياً يقف على حافة الانتحار. كان نيتشه قد خرج للتو من قصة حب محبطة مع لو سالومي، الروسية المثيرة التي وقع في شباكها أكثر من عاشق، مثل فاغنر، وريلكه، وبول ري. الأخير كان الضلع الثالث في الورشة الفلسفية التي اقترحتها لو سالومي، قبل أن يتفكّك المثلث تحت ضربات العاطفة المتأججة التي أبداها نيتشه نحوها، لكنها ستذهب مع بول ري، ما اعتبره نيتشه خيانة منهما له. هكذا زعزعت هذه الأنثى الصغيرة كيان الفيلسوف لينتهي مريضاً في عيادة الدكتور جوزيف بريوير، بمبادرة من لو سالومي نفسها، لكن من دون علمه، حرصاً على مستقبل الفلسفة الألمانية، وفقاً للرسالة التي أودعتها عيادة الطبيب. نحن في فيينا، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر (1882)، وكان نيتشه حينذاك في بدايات تلمّس مشروعه الفلسفي. يوافق بريوير على معالجة «العقل المريض» في تجربة لم يخضها قبلاً. وعلى ضوء بعض كتابات نيتشه المبكّرة، يحاول أن يطوّر عمله في التحليل النفسي بمساعدة تلميذه الطبيب الشاب سيغموند فرويد.

اختبارات عميقة لمعنى
الحرية والاختيار والعبودية
كان نيتشه حذراً في كشف أمراضه النفسية، لكن بريوير يجد في هذه العيّنة من المرضى فرصة لاكتشاف أمراضه الشخصية، و»كنس المدخنة» مما علق بها من «قمامة عقلية». وإذا كانت لو سالومي هي من أوصل نيتشه إلى حافة الانتحار، فإن بيرثا، المريضة السابقة لدى الطبيب، هي نسخته الشخصية من الدمار العاطفي. مريضان يتبادلان الأدوار في العلاج، على خلفية هائلة من المصطلحات في تشريح الجسد والروح، ذلك أن «أطروحة اليأس» لا تخص نيتشه وحده، إنما يعاني منها الطبيب أيضاً، فما أن تختفي بيرثا من حياته حفاظاً على علاقته الزوجية مع ماتيلد، حتى يفقد أي معنى لحياته، رغم رصانته المعلنة، ونقاشاته العلمية مع تلميذه فرويد، الصديق الحميم للعائلة. مع نيتشه، في الغرفة «13» من المصحة، تنزاح طبقات من أسرار الرجلين في جلسات عصف فكري، و»خدمات تخفيف الألم»، وسبر «مسارب العقل الخلفية». إنهما من الجيل الذي قرأ بشغف رواية «آلام فارتر» لغوته، الرواية التي ينتهي بطلها إلى الانتحار، لكنهما في المنعطف الأخير من أحوال الاحتضار يفتشان عن طوق نجاة ينقذهما من اليأس: «اليأس هو الثمن الذي يسدّده المرء لقاء الوعي الذاتي. تمعّن في الحياة، وستجد اليأس على الدوام» يقول نيتشه مخاطباً جوزيف بريوير. عند هذه العتبة، نتعرّف إلى شذرات من أطروحة نيتشه غير المكتملة عن الأساطير الغيبية، وموت الإله، ومحاولة إنقاذ البشر من العدمية والوهم وخرافة الدين. بناء على فكرة طرحها نيتشه بأن الأحلام ليست سوى فضلات عشوائية يطرحها العقل في الليل، يسعى الطبيب إلى تعويض خسائره بالأحلام، فيخضع لجلسة تنويم مغناطيسي لدى تلميذه فرويد، في محاولة لإزاحة صورة بيرثا عن مخيّلته، وهوسه الجنوني بها، إلى أن يعلن شفاءه منها، إثر رحلات وهمية إلى أرضٍ أخرى، واختيار قدره، بعيداً عن زوجته ماتيلد، وكل ما يربطه بالماضي، وذلك بمقارعة العدو الحقيقي «الزمن والشيخوخة والموت». وحين يخبر نيتشه بأنه شفي تماماً من شهوانيته، نكتشف أن صديقه يعيش الهوس نفسه بلو سالومي، معتبراً أنها خانته ودمّرت حياته تماماً، وانتهى إلى الخذلان والعزلة والكآبة، قبل أن يشتبك مع زرادشت، في تجربة فلسفية مختلفة. نخرج من هذه الرواية بقناعة مؤكدة بأننا كلّنا مرضى، ولكن بدرجات، وأن قصص الحبّ المحبطة، أساس كلّ العلل، كما لا يمنع أن نتبادل الأدوار فوق أسرّة المرضى وزيارات الأطباء كفواتير مؤجلة بين الطرفين، بالإضافة إلى أهمية أن نخترع حيوات مختلفة لأشخاص لطالما كانوا خارج مرمى الخطر، بوضعية يكون فيها «مستلقياً على الكنبة» وفقاً لعنوان أحد كتب إرفين د. بالوم نفسه.
يضع إرفين د. إيلوم، وهو أستاذ الطب النفسي في «جامعة ستانفورد» الأميركية، قارئ روايته في المصحة نفسها التي قاد إليها مرضاه، في اختبارات عميقة لمعنى الحرية والاختيار والعبودية. سنفاجأ في نهاية الرواية بمصائر أخرى لشخوص روايته. في الواقع، لم يلتق نيتشه وجوزيف بريوير قط، ولم يكن التحليل النفسي شائعاً حينذاك، بل كان جنيناً، تطوّر على نحو مذهل على يد فرويد. أما لو سالومي، فلم تعد مجرد فتاة عابثة، بل أصبحت شاعرة ومحلّلة نفسية معروفة. على هذا المنوال، بإمكاننا دمج الغموض الفلسفي بالوثيقة التاريخية تحت بند التأويل الروائي، وقد ننجح في ذلك، حين نجد شخصية بمقام فريدريك نيتشه.