للوهلة الأولى، يظنّ قارئ رواية "راوية الأفلام" للروائي التشيلي إيرنان ريبيرا لتيلير (1950)، الصادرة في تشيلي عام 2009، والمنقولة إلى العربية (دار بلومزبري - 2011- ترجمة صالح علماني)، أنه أمام مرثيّة لفن السينما لحظة ظهور التلفاز. غير أنّ لتيلير باختياره إحدى قرى تشيلي الفقيرة، التي يعمل أهلها باستخراج الملح من مناجم وسط الصحراء، مستفيداً بذلك من سيرته الذاتيّة، حيث نشأ في إحدى تلك القرى، في صحراء أتاكاما، يحمل روايته، في العمق، إلى ما هو أبعد بكثير من القصّة المرويّة.
فبطلة الرواية، الابنة الخامسة لوالديها، بعد أربعة من الذكور اختار لهم الأب أسماء تبدأ بحرف الميم، بسبب هوسه بالسينما ونجومها، الذين يحمل جلّهم أسماء تبدأ بهذا الحرف، عمّدها والدها باسم ماريا مارغريتا، بعدما رفضت زوجته، مهددة إيّاه بالطلاق، أن يسميّها مارلين، تيمناً بمارلين مونرو، في تفصيلٍ يحمل في ثناياه مفاتيح لمستقبل مؤلم ينتظر أبطال الرواية.
في بيت من الصفيح، وفي حالة من الفقر المدقع، لا يسرف لتيلير بوصفها، نشأت ماريّا مع أشقائها ووالديها، قبل أن يتعرّض الأب لحادث يصيبه بالشلل، ويجعله عاجزاً عن الحركة، فيخسر زوجته، التي اختارت الرحيل، في يوم غائم، سعياً خلف طموح لطالما اعتمل داخلها، هي التي لم تجد يوماً في فاتنات السينما مواصفات لا تمتلكها، لتترك زوجها وحيداً مع أبنائه، ومدمناً للكحول، بعدما بات عاجزاً عن ارتياد السينما، وبالتالي فقد متعة حياته.
وإذ تتمكن ماريّا من اجتياز المسابقة مع إخوتها، وتتفوّق عليهم بقدرتها على حفظ الأفلام، وإعادة روايتها لأبيها، مبدية قدرات استثنائيّة في ذلك، تجعل الأب يؤكّد أن ما ترويه ابنته يغدو أجمل من الفيلم ذاته، تتحوّل ابنة الأعوام العشرة إلى راوية للأفلام، التي يدّخر الأب المال من أجر تقاعده الضئيل، لتتمكن ابنته من مشاهدتها وإعادة روايتها أمامه. غير أن الموهبة التي تبديها الطفلة في ذلك، تثير إعجاب سكّان المعسكر برمّته، لتتحوّل إلى راوية أفلام حقيقيّة، يجيء الجميع لمشاهدتها، أو يطلبونها لتروي لهم، لقاء أجر أصبح دخلاً رئيساً للعائلة.
يمضي لتيلير في روايته، تاركاً الحوريّة دلسن، وهو الاسم الفنيّ الذي اختارته ماريّا لنفسها، على غرار ما يفعله جميع نجوم السينما، تروي سيرتها بلغة سرديّة شيّقة، مضبوطة الإيقاع، بحيث تمضي جملها متلاحقةً برشاقة، فتجعل القارئ مأخوذاً بسحرها، وبمقدرة الكاتب على جعل حكايته أقرب إلى شريط سينمائي مصنوع بحرفيّة ودقّة عاليتين، مستفيداً في صنعته من تقنيات السرد الروائي، والسرد الحكائي، والمسرح، والسينما، ليبدو في الرواية وكأنه يقوم بدور مشغّل الشريط السينمائي، الذي يتضح بجلاء في المقطع الأخير من الرواية، بينما بطلته تستخدم براعتها في رواية الأفلام لتروي الحكاية، هي التي اكتشفت، بعدما أصبحت نجمة المعسكر، أنّ الجميع يحبون أنو تروى لهم القصص، "يريدون الخروج لحظات من الواقع، والعيش في تلك العوالم الخيالية، التي تقدمها الأفلام والتمثيليات الإذاعية والروايات، بل إنهم يرغبون في أن تروى لهم أكاذيب، على أن تروى تلك الأكاذيب بصورة جيدة". غير أنّ ماريّا لا تروي الأكاذيب هنا، إنها تروي حكاية وجع حقيقي لأناس يعيشون البؤس في تلك البقعة الجغرافيّة البعيدة، تروي حكاية الاضطهاد والفقر والصراع الطبقي، حكاية الظلم والديكتاتوريات، حكاية زمن ثورات التحرّر الإنسانيّ، حكاية بؤس إضافيّ حلّ حين حضر التلفاز، حيث باتت صالات السينما شاغرة، وانسحب الناس من الحياة الواقعية، ليتحوّلوا إلى سجناء لذلك الصندوق السحريّ، الذي يعرض لهم صوراً لأوّل وصول للإنسان إلى سطح القمر، ووصول سلفادور الليندي إلى السلطة. بينما تتحوّل حوريّة دلسن، في الرابعة عشرة من عمرها، إلى عشيقة للمدير بعد وفاة والدها، وتفرّق أشقائها، كلّ منهم يسعى خلف طموح لا يمتلك الفقراء غيره، بينما يقبع أحدهم في السجن، عقاباً له على جريمة تبدو اقتصاصاً من رأس المال، لاستعادة شيء من الكرامة المهدورة. لتتحوّل أرض المعسكر القفر، إلى أرض خراب، "أحدثهم عن الحياة التي كنا نعيشها في المعسكر: لم يكن هناك من يموت جوعاً، كنا نساعد بعضنا بعضاً، ونستطيع النوم في الليل وأبواب بيوتنا مفتوحة دون أن يحدث شيء. ويستمع إليّ الزائرون غير مصدقين، بعضهم يستمع بشيء من الأسى، ولا يعدم من بينهم من يعاملني على أنني امرأة نوستاليجيّة، رومانسية، متأثّرة بالمسلسلات المصوّرة".
في هذه الرواية يتمايز لتيلير، الحائز وسام الجمهورية الفرنسية بدرجة فارس في الآداب والفنون، عن الواقعيّة السحريّة، التي وسمت أدب أميركا اللاتينية لعقود طويلة، ليمضي في تصوير الواقع كما هو، كمن يمسك كاميرا سينمائية ويقوم بالتصوير، فإن كنّا مصنوعين من مادّة الأحلام نفسها، بحسب ما يقول شكسبير، فإنّ تيلير يقول، على لسان حورية دلسن: "إننا مصنوعون من مادّة الأفلام نفسها". ولعلّ سحر هذه الرواية يتأتى من المقدرة الاستثنائيّة لتيلير على التكثيف، فالرواية التي لم تتجاوز 109 صفحات، استطاعت أن تحمل في طيّاتها تفاصيل حيوات كاملة، وبأقل عدد ممكن الكلمات، حيث لا مكان لكلمة زائدة، وهنا لا بد من الإشارة إلى الترجمة المميزة لصالح علماني، الذي استطاع أن ينقل إلى العربية روح الرواية كما هي. وإن كانت حورية دلسن تقول: "كانت روايتي للأفلام تخرجهم من ذلك العدم الفظ الذي تعنيه الصحراء"، فإنّ "راوية الأفلام" توقع قارئها في ذلك العدم الفظّ، قبل أن تنتهي في غفلةٍ منه، ليجد نفسه أمام رواية ربّما يحتاج، إذا ما أراد أن يرويها على أحد، إلى أضعاف مضاعفة من الكلمات التي اكتفى بها لتيلير لتختزل حياة كاملةً، كأنّها تمضي في يوم غائم.