من واقع عبثيّ تتصاعد موسيقى فرقة «مشروع ليلى». من عاصمة مقتسَمة، وجيل ضائع، جيل ما بعد الحرب الأهلية. من حياة المدينة وذاكرتها «المثقوبة»، وعلاقات إنسانية وعاطفية مهدّدة في ظلّ التناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالمجتمع اللبناني. من الفوضى، ومظاهر العنف، من فضاء مستباح تختلط فيه المحظورات بالحرّيات، وتتناقص الديموقراطية.حامد وهايغ وأمية، وأندريه وفراس وإبراهيم وكارل، خرجوا ـــ من حيث يدرون أو لا يدرون ربّما ـــ عن «القطيع»، واتّخذوا من الأغنية مساحة لفهم الـ«أنا» والآخر، وهدم الحواجز، وطرح الأسئلة الموجعة.
أغنيات مسرحها العالم والذات، ومادتها الحياة اليومية. هل أصبح «الحلّ رومانسياً» أم أنّ إحساسهم بالخيبة والعجز جعلهم يساكنون الخسارة؟: «ما زالك بلا شي/ ما فيك تِخْسَرْ شي/ (...)/ كان بَدّي غيِّر العالم/ مش عارف كيف العالم غيَّرْني» (أغنية «إنّي منيح»). هكذا هم حامد سنّو ورفاقه، عشرينيون قانطون ينغّمون أحلاماً ضائعة ومصائر معلّقة، ويسامرون الألم.
ترى، هل أبكروا في التراجع؟ «كان بَدّي إحْمُل السما/ وهلّق أنجأ حامِل نفسي». قد يخيّل للحظة أنّ وعيهم أصبح «انهزامياً»: «مِش شايف حدا غيري/ مش شايف إلا زبالة/ (...)/ يا أخي مِتِلْ إجري/ ما وِجّي بَلَعْ إجري» (وجيه). ثمّ لا تلبث أن تغيّر رأيك، مكتشفاً أنّ غضبهم ثوريّ مفعم بالرومانسية: «وِمْنِحْرُق هالمدينة/ مِنْعَمِّر وِحدي أشرف/ وِمْنِنْسى هالزمان/ نحلم (بـ) زمن ألطف» (إنّي منيح). الأغنيات التي كتب نصوصها حامد سنّو (مغنّي الفرقة)، تكتسي طابعاً نقدياً، وتنمّ عن عقل ثاقب (مقارنةً بأبناء جيله).
في أسطوانتها الثانية «الحلّ رومانسي» التي قدّمتها أمس ضمن حفلة أقيمت في «ميدان سباق الخيل» في بيروت، تبدو الفرقة حائرة بين محاولة استيعاب الواقعية السياسية والانسحاب والمجابهة. ما يعبّر عن ردّ فعل جزء من الشباب اللبناني على الواقع المأزوم. في الخلفية، تتراءى أسئلة المرحلة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأسئلة وجودية وفلسفية.
اكتشفنا «مشروع ليلى» عام 2008 في بيروت، يوم أطلق حامد ورفاقه «صرخة» تختزن وجع جيل وشعب. طلاب في «الجامعة الأميركية في بيروت»، دخلوا معترك «الموسيقى البديلة»، كأنّما ليظلّلوا منفاهم داخل الوطن. ردّدنا كلمات بعض أغنياتهم، كمن يتمرّى فيها، وانتقدنا أداءهم وطريقة عزفهم. لكنّ أحداً لم يكن قاطعاً في حكمه (النقدي)، ربّما لأنّنا ـــ كأنّنا ـــ كنّا نبحث حينها عمّا يكمن خلف «مشروع ليلى»، ويفوق الموسيقى والغناء. هل كنّا نبحث عنّا؟
تتجاور البساطة والجرأة والسخرية المرّة في بعض أغنيات «الحلّ رومانسي» الذي يحمل نفَساً تجريبياً، شرقياً وغربياً معاً. أعضاء «مشروع ليلى» الآتون من خلفيات موسيقية مختلفة، تنقّلوا بسلاسة بين البوب ـــ روك والفولك الأوروبي والأميركي والموسيقى الشرقية، وأظهروا همّاً موسيقياً «نظيفاً»، ما يستحقّ التوقّف عنده. مع أنّ مشروعهم الموسيقي يكتنف رؤية جديدة ومتعدّد الأوجه، فإنّه لم يهتدِ إلى ملامحه النهائية. «نتشارك في تأليف التيمات، ونغوص في الارتجال. ثمّ نشتغل على تشذيب جملنا النغمية وتطويرها» يقول حامد.
في «الحلّ رومانسي»، ثمّة مخزون ثقافي متراكم أتى من ثقافات موسيقية عدّة. بدأت علاقة حامد بعالم الجاز والبلوز والروك في عمر باكر. يميل هايغ بابازيان (كمان) إلى المعاصر والموسيقى الأرمنية والشرقية والطرب. وتفضّل أمية ملاعب (كيبورد) الجاز، فيما يهتمّ أندريه شديد (غيتار) بالروك الكلاسيكي. أمّا فراس أبو فخر (غيتار) وكارل جرجس (درامز)، فمولعان بالـ indie rock. وإبراهيم بدر (باص) منحاز إلى الروك التطوّري، والإلكترو، والـ«روك ــــ ميتال».
أغنيات الفرقة المشرّعة على التنوّع والاختلاف، تشكّل نواة لموسيقى شبابية عربيّة في طور التكوّن، كنتيجة طبيعية لتأثيرات العولمة وما تتيحه من أشكال التلاقح. في «الحلّ رومانسي»، نلاحظ تحسّناً على صعيد الأداء، والبنية اللحنية، والتوزيع الموسيقي (string section، والكورال...). لكنّ عيوب النطق عند حامد (مخارج الحروف تحديداً) تضعف أداءه في بعض المحطّات الغنائية. هل هذا خيار وأسلوب؟
العمل الذي يتأرجح بين البوب والروك والموسيقى الأرمنية والشرقية... يطرح علينا أسئلة عدّة عن ماهية «الموسيقى البديلة» وأهمّيتها في ظلّ تصاعد موجة البوب التجاري، والفرْق بين «مشروع ليلى» والمجموعات الشبابية اللبنانية والعربية التي تعمل على تأليف موسيقى وأغنيات مشابهة. مع أنّ أغنيات «ليلى» لا تخلو من «الثوروية» الرومانسية، فإنّ الحلّ «لا يمكن أن يكون رومانسياً» بحسب حامد.
عنوان أسطوانتهم الثانية ترجمة لنظرية romantic solution (علم الاجتماع الجندري) في ارتباطها بالظواهر الاقتصادية، ومقولات فريديريك أنجلز. وكالعادة هناك علاقة خفيّة، غير مباشرة بين حامد سنّو ورفاقه، وتراث عمر الزعنّي (1898 ــــ 1961). في الأسطوانة الجديدة، تأتي أغنية «إمّ الجاكيت» بمثابة تحية إلى روح الفنّان الشعبي اللبناني والمونولوجيست الراحل... وتعيد إحياء الفولكلور المديني بما يواكب متطلّبات الموسيقى المعاصرة. باختصار، إنّها تجربة تحتلّ موقعاً متقدّماً على خريطة أغنية الاحتجاج اللبنانية.