في المسرح التونسي أعمال كثيرة توسَّل بعضها النقد الاجتماعي التقليدي، وبعضها الآخر أخذ المسالك الجماليّة الوعرة والمتعرّجة التي تلتفّ على الرقابة كي تُخاطب المشاهد بالرموز والإيماءات. لكن الجيل الذي فتح عينيه عام 1968 على انتفاضة الشباب الأوروبي التي ترددت أصداؤها بين جدران الجامعة التونسية اليافعة، ظل يسخر من القوالب التقليدية، مفضّلاً التحليق في سماء المسرح العالمي.
تجربة المسرح الجامعي الخصبة فرّخت جيلاً من كبار المسرحيين، منهم الفاضل الجعايبي، وتوفيق الجبالي، وجليلة بكار، ومحمد ادريس، والفاضل الجزيري، ورجاء بن عمار، وعبد الرؤوف الباسطي... هؤلاء عملوا معاً في السبعينيات، وكتبوا للمسرح التونسي بعض أجمل صفحاته، قبل أن تتقطع بهم السبل وسط مناخ سياسي شهد ذروة القمع المسلّط على المجتمع التونسي، ونخبه اليساريّة والتقدميّة. مع تشتّت هذا الرعيل، اختار الثنائي الفاضل الجعايبي وجليلة بكار مسارهما، مع كوكبة من الشباب، في فرقة «فاميليا» التي أسّساها مع المنتج الحبيب بلهادي في التسعينيات. شكّلت «فاميليا» امتداداً لتجربة فرقة «المسرح الجديد» الأسطوريّة التي اختارت منذ 1976 منحى التجريب والتحديث، لتشكّل منعطفاً مهماً في مسار المسرح التونسي والعربي.
وعبر الفرقة الجديدة، قدّم الثنائي بكار/ الجعايبي أفضل أعمالهما مثل «فاميليا» التي تناولت مشكلة الذاكرة والنسيان، و«البحث عن عائدة» التي عُرضت في ذكرى نكبة فلسطين و«جنون». صحيح أنّ الرقابة عطّلت بعض الأعمال، فيما أتيح للجمهور التونسي مشاهدة معظم تجارب الجعايبي، وأخيرتها «يحيى يعيش» التي قدّمت ضمن البرنامج الرسمي للدورة 65 من «مهرجان أفينيون» العريق جنوب فرنسا (راجع المقال أدناه). المسرحية التي كتب نصها (بالعاميّة التونسيّة) الجعايبي ورفيقة دربه الممثلة والكاتبة جليلة بكار، شهدت إقبالاً جماهيرياً في بلد علي بن عيّاد رائد المسرح التونسي الحديث بعد الاستقلال. تقاسمت جليلة أهم الأدوار في العرض، مع ممثلين بينهم معزّ مرابط وفاطمة بن سعيدان وصباح بوزويتة ورمزي عزيز...
العمل الذي حمل بالفرنسيّة عنواناً اضافيّاً هو Amnesia (مرض النسيان)، تفكيك منهجي للبنية السياسية والنفسية التي كانت تحكم تونس حتّى الأمس القريب. يدور العرض (سينوغرافيا قيس رستم، ملابس أنيسة بديري)، حول شخصية «يحيى يعيش» الذي يتحول من جلاد إلى ضحية لنظام خدمه بأمانة. تروي المسرحية وسط تقشّف سينوغرافي، قصة ذلك المسؤول الذي عُزل من منصبه فجأة، قبل إخضاعه للإقامة الجبرية. مع ذلك، يصرّ يحيى على أنّ ما فعله كان لخدمة المصلحة العامة! إنّها إذاً «عملية فحص دقيقة للجهاز السياسي للوقوف عند علاقة رجل السياسة بالسلطة والمادة والآخر»، كما قال الجعايبي. تتخلل المسرحية التي تنطلق بصعود الممثلين إلى الخشبة بنظرات خائفة وحذرة، مشاهد صامتة ترك فيها المخرج للحركة حرية التعبير. وكعادته، راهن الجعايبي على التقشف في الديكور الذي اقتصر على الكراسي في اشارة إلى «الرغبة في الانفراد بالسلطة».
مسرح الجعايبي الراديكالي ازداد حدّة مع «خمسون» (2005)، حيث تناول ظاهرة الإرهاب والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية التي تدفع الشباب إلى حضن الحركات الأصولية. أثار العمل الذي انطلق من «مسرح الأوديون» الباريسي جدلاً حاداً في تونس، وعرقلته الرقابة أسابيع قبل أن يقدّم بفعل حركة تضامن واسعة داخلياً وعالميّاً. هنا بدا أنّ مراهنة الجعايبي ـــــ مثل جان فيلار ـــــ على «المسرح النخبوي للجميع»، حقّقت هدفها في أوج قوة النظام السابق. وقد واظب الجمهور على مشاهدة «يحيى يعيش» في قاعة «مونديال» في العاصمة التونسية لأسابيع... ما جعلها تشكّل مساهمة في خلق المناخات المؤاتية التي مهّدت لانتفاضة الكرامة. من هذه الزاوية، شكلت المسرحية بحسب الجعايبي، دليلاً على أن هذا العمل «ليس موجهاً لفئة معينة، وكل من يدعي ذلك يريد اقصاءنا وتهميشنا» اليوم، ذهب «يحيى يعيش» بحكايته التي تُشبه حكايات «الأباراتشيك» في معظم البلدان العربية، إلى أفينيون ليمثّل المسرح التونسي. وها هو التيار الذي أبصر النور ذات يوم على خشبة المسرح الجامعي، مُبشراً بميلاد حركة طليعيّة، يتذوق التكريس بعدما هبّت رياح التغيير على تونس... علماً بأن الجعايبي يجول من أكثر من عقد على المسارح العالميّة، وجاء سابقاً إلى أفينيون. وقد وصلت أعماله إلى دائرة واسعة من المشاهدين... قبل أن يكون أوّل من جسّد إرهاصات «ثورة الكرامة» التي أعلنت بداية عصر جديد...
* إعلامي وناشط تونسي

«مهرجان أفينيون» ــ حتى 26 تموز (يوليو) ــــ www.festival-avignon.com



رغماً عن الرقابة

بعد مماطلة الرقابة في منح «يحيى يعيش» إجازةً للعرض في تونس، عُرضت المسرحية عام 2010 في قاعة «المونديال» في العاصمة التونسيّة. يومذاك، علّق الجعايبي على العرض التي أخرجه وكتبه مع جليلة بكار قائلاً: «السياسي رجل قبل كل شيء. وإذا ارتقى في هرم السلطة إلى أعلى مستوى، فإنّ فحص تناقضاته وتأثيراته على محيطه شيء في غاية الأهمية بالنسبة إلينا. «يحيى يعيش» هي ببساطة دعوة للسلطة إلى أن تعيد النظر في ذاتها وفي علاقتها مع المواطن». وعن المشاكل التي واجهها يومها مع رقابة زين العابدين بن علي، قال: «السلطة دعتنا إلى مراجعة النص، لكنّنا لم نُراجع منه أيّ كلمة. لو كانت هناك رقابة ذاتية، أو رقابة مسلّطة علينا، لما بقي من العمل أيّ شيء».

لقد تم تعديل هذا النص عن نسخته الأصلية بتاريخ 21 تموز 2011 | 12:45 PM