سهيل عبّود
مفارقة الصحافيين الشيوعيّين: أكثر ما يلمعون حين يعملون خارج الصحافة الشيوعيّة، وأكثر ما يتفتّحون عندما يتركون الحزب الشيوعي. وبينهم مَن لم يصبح شيوعيّاً حقّاً إلّا بعد مغادرته الحزب. زيّنوا الصحافة العامة بثقافتهم الإنسانيّة وبإعادة النظر والشكّ والسخرية والتجرّؤ على المقدّسات. صحافة أحزابهم الرسميّة تقيّدهم وتحبط مواهبهم وتوصد الباب دون الرحابة الديالكتيكيّة والألمعيّة الفرديّة زائدة الجرعة. الصحافات الحزبيّة والرسميّة عموماً تَخنق، لكنّ الصحافات الحزبيّة اليمينيّة تتحمّل الشخصانيّة، لا بل تعتمد عليها. الصحافة الشيوعيّة العربيّة ظَلَّلها الجمود الستاليني والجدانوفي حتّى خلتْ من الروح كما خلت من الفكر الماركسي على المذاهب الأوروبيّة الغربيّة المتحرّكة المتأجّجة، ولا سيما منها الماركسيّات الفرنسيّة. تعريب الشيوعيّة أخرج أحزابها من الحريّة وسلّط عليها وصاية موسكو، ثم أدخلها في تجاذبات أنظمة الحكم العربيّة، أي غالباً إمّا إلى السجون وإمّا إلى «مراعاة» أجهزة الاستخبارات.
سهيل عبّود الذي رحل قبل أيّام في الكويت (وقد ذهب من لبنان قبل عشرين عاماً للعمل في صحافتها) تجسيدٌ مأسويّ بارز للمفارقة المشار إليها. من سوء حظّي أنّي لم أتعرّف إليه إلّا قبل عام. موسوعة عامّة، فكرٌ يتوهّج ويفاجئ، كَشْفٌ وراء كشف، شفهيُّ الخَلْق، خبيرٌ مجدّد في التاريخ، له فيه نظريّاته الخاصّة ومعادلاته، فضلاً عن كونه خزّان معلومات في حاليّات السياسة اللبنانيّة والعربيّة عزّ نظيرها. هذا الشيوعي العتيق، ابن جاج الجبيليّة، أستاذ أجيال من الصحافيين الشيوعيّين، يقيناً لم تستفد من طاقاته جريدة الحزب «النداء» ربع ما استفادت «القبس» الكويتيّة، مثلاً، ونصف ربع ما استفاد أصدقاؤه وجُلّاسه والمستمتعون بآرائه الفذّة في كلّ شيء. لعلّه كان أكثر شيوعيّي العرب تمزّقاً، وما أكثرهم، ومن أكثر الأدمغة حريّة في العالم العربي. كان سهيل عبّود تثبيتاً يوميّاً للنظريّة القائلة إنّ الرأي لا ينضج ويسطع إلّا في المكان المختلف. الفكر في حاجة إلى اغتراب ليجد أوطانه.
خلال آخر لقاء لي به في مكتب الصديق المشترك إميل منعم في «الأخبار»، وعد بأنّه سينصرف إلى إنجاز كتابه في التاريخ. مقال إبراهيم الأمين الوداعي يترك علامة شكّ. مناخ المقال نفسه يغري بأن يقوم أصدقاء الراحل ورفاقه بإصدار كتاب عنه، عن تجربته مع الحزب وفيه، وعن مواقفه وكيفيّة إنارتها لأزماتٍ وطنيّة وقوميّة واجتماعيّة، من قضايا الأكثريّات إلى قضايا الأقليّات، ومن يسار إلى يسار، ومن مُلقَّناتٍ محنَّطة إلى مكابدة الواقع واختلافه جذريّاً عن الملقَّنات. عقل لم يسترح، عقل تتواجه فيه التناقضات بلا رحمة، في كفاحٍ وجوديّ دائم لتطهير الأرض من أوراق الخريف، وكأن الشمس لن تشرق بغير معرفة الحقيقة.
مات سهيل عبّود، رجل الأخلاق والنبوغ، عن ثمانيةٍ وخمسين عاماً. عن ثمانيةٍ وخمسين دهراً من القهر.


بانتظار فرويد الآخر

الذين يكتبون عن سياسات الدول يعتبرون أن هذه هي سياسات الدول. وزعماء هذه الدول يتحدّثون في الخطب كأنهم هم الذين يقرّرون، وذراعهم المعلنة، حكوماتٍ وجيوشاً، هي التي تُنفّذ. الانطباع أن هذا هو الوجه «الواعي» للأمور، أمّا القرارات والإدارات الأساسيّة ففي الأيدي التي نسمّيها خَفيّة، وهي المستشارون والخبراء والعلماء والزوجات والعشيقات، فضلاً عن أباطرة الشركات العملاقة ودوائر الاستخبارات. العقل الظاهر، أي الدولة العلنيّة، والعقل الباطن، الموجّهون والمدبّرون والفاعلون العاملون وراء الأضواء، ولا يصل من وقائع الظل إلى العلن إلّا ما تفرج عنه مملكة الظل خدمةً لغاياتها.
حقيقة قديمة جدّاً ما زالت قائمة رغم الديموقراطيّة والشفافية والصحافة والانشقاقات عن السلطة والوظيفة. إذا أخذنا حرب العراق وحدها نستطيع أن نكوّن فكرة عن الفرق الهائل بين آليات الحكم العلني المباشر وآليات الضبّاط الخلفيّين. لقد عوّض الغرب الديموقراطي تعريض وجهه بخلق طبقات سميكة من البواطن غير المقيّدة، وخلف الكوابح الأخلاقيّة والقانونيّة أنشأ «سلطة حرّة».
مجتمعاتنا لم ترقَ إلى هذه البلاغة في الازدواجيّة، وإذا كان زعماؤنا يستسلمون أحياناً لمَن يتلاعب بهم من الخارج فهم لا يرتضون أن يقاسمهم أحد سطوتهم في الداخل، حتّى لو كان ذلك في خدمتهم.
لقد أوتي علم النفس طبيباً يغوص بمصابيحه على ما تحت الوعي. عالَم السلطة لا يزال ينتظر فرويده. وسوف ينتظر طويلاً.


شرفة على الغربي

الجمال لاجئٌ في المطارح المنسيّة، في أوديةٍ لا شأن لها وذُرىً لا وصول إليها، في قرى لا ظَهْر لأهلها وفي دروبٍ تنضح بعطر سكّرها العتيق.
كانت البَشَرة أَشْرَق والشَعْر أبرق والعيون أغمق. كان الشقار شقاراً والسمار سماراً والبياض أبيض من القطن والملائكة.
كان هواء المنازل هو نفسه هواء الله، وندى الأزهار هو نفسه ندى السماء. لم يكن البهو غرفة استقبال فقط بل شرفة على الغربي، والغربي هو الاسم الثاني لعروس رياح الأصيل، حين تَغلّ في الجالسين موجات خَدَرٍ مصنوعٍ من أريج الحقول ومجاهل ما فوق الجبل. كانت النساء كلّهنّ فتيات والفتيات كلّهنّ طالعات من البحر.
قويٌّ نداء غناء الماضي. رجعيّة وانكفاء، خداع بَصَر، انحطاط؟ حقّ المتعب أن يستسلم للأرائك الوثيرة، حقّ الروح أن تنغمس، والوجه أن يلتفت، والنَفْس أن تتنفَّس. لم يعد جميلاً إلّا ما يُذكّرنا... وإذا كانت الجمالات الراهنة صالحة فلأنّها سليلة عروش، وأطيبها تلك العروش التي لم يُعترف بها، فزادتها اللاشرعيّة سحراً، وراحت تشرق لها الشمس عند عبورها.
ليس جميلاً إلّا ما يُذكّرنا. ما يُذَكّر يعطي أملاً. جمالُ الطفل صباح الماضي. في كلّ ماضٍ عودة. الجمالُ ذكرى الغد.



عابرات

تنزل فيه ابتسامتُها كما يطير عصفورٌ فجأة من شجرة.
يقع فيها كلامه كما يقع مجهولٌ في مجهول.

■ ■ ■

تَنظر من باب فردوس، تضحك من أعماق وعدها، وتمشي محفوفة بشمس العيون.

■ ■ ■

الأبله الذي لا يمكن استغلاله محرومٌ من اعتباره ضحيّة.

■ ■ ■

كلّ هذا الجهد لتحاول أن تصبح في النهاية صداكَ وحده.

■ ■ ■

تَشْحذ الوحدةُ حسّ الاتحاد كما تشحذ الصحراء غريزة الحيلة.

■ ■ ■

لا تَرْتَبْ، صدِّقْ، أَنْ تُخْدَع أكرمُ من أن تَكْسر نظر صاحبك.

■ ■ ■

لكلٍّ منّا مستعمرات سابقة نسي فيها «عبيداً».