أجمع علماء النفس على أنّ الموسيقى تسهم في تنمية التفكير الإبداعي creative thinking (التحليل، والاستنباط، والابتكار...) لدى الأطفال والشباب، ما يؤكّد ضرورة إدراجها مادة رئيسية في المدارس، أسوةً بالرياضيات، والفيزياء... واقع التربية الموسيقية المأزوم عربياً، يعكس واقعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً مأزوماً، لم تعالجه الثورات العربية بسبب الفجوة بين «الوعي الثوري» (الشعبوي) من جهة، والوعي الثقافي والفنّي ـــــ وربّما السياسي ـــــ من جهة أخرى، وغياب الحسّ النقدي عند الشعوب العربية الغارقة في البؤس، والمتخبّطة في وحل الراهن الملتبس (شبح الثورة المضادة، ولوثة التطرّف، والعصبيات الطائفية والمذهبية...).
ليس سرّاً أنّ أزمة الموسيقى العربية ترتبط بواقع التربية الموسيقية، والإعلام العربي الذي كرّس ثقافة «الصورة» والاستهلاك على حساب الفنّ «النظيف» والموسيقى. بدورها أدّت «السياسة الثقافية» لمعظم الأنظمة العربية دوراً سلبياً وحالت دون إعداد مناهج أكاديمية موسيقية حديثة تنهل من معين التراث، وتشتغل على الذاكرة، من دون تجاهل التطوّر التكنولوجي، والموسيقى الغربية. لدى سؤال أيّ باحث عربي عن كيفية مواجهة هذه الأزمة، يكون الجواب: «تطوير المناهج الموسيقية التربوية يستوجب «قراراً» سياسياً». لكن نادراً ما يتطرّق أحدهم في أبحاثه إلى تلك المسألة، حرصاً على عدم زجّ الموسيقى في أوحال السياسة. المفارقة أنّ هذه الإشكالية تأخذ بعداً سياسياً بامتياز، ولا مناص من طرحها بجرأة.
«جامعة الروح القدس ــــ الكسليك» احتضنت أخيراً مؤتمر «التربية الموسيقية في المدارس في الدول العربية» (نظّمته كلّية الموسيقى، و«المجمع العربي للموسيقى»)، وفتحت باب النقاش على مصراعيه. أكاديميون وباحثون عرب ولبنانيون اجتهدوا في مقاربة واقع التربية الموسيقية من زوايا مختلفة: «الإرث الموسيقي الوطني والقومي في التربية الموسيقية»، والمناهج بين الأمس واليوم، و«نظرة المجتمعات العربية إلى الموسيقى»... الأب يوسف طنوس، عميد كلّية الموسيقى في جامعة «الكسليك»، رأى أنّ «الموسيقى لا تزال ممنوعة في بعض أوساط المجتمعات العربية لأسباب دينية واجتماعية. النظرة الدونية لها في بعض المجتمعات هي التي منعت إدخالها كعنصر أساسي في تربية الطفل»، مشيراً إلى أنّ «إلزامية التربية الموسيقية في معظم الدول العربية قد لحظتها قوانينها، لكنّها لم تضع لها آلية تنفيذ». فيما رأى نبيل اللّو، العميد السابق للمعهد العالي للموسيقى في دمشق، أنّ «التربية الموسيقية في مدارسنا برمّتها تحتاج إلى حوار وطني عام». كان ثمّة (شبه) إجماع على أنّ المنهج الموسيقي التربوي الصادر عن «المركز التربوي للبحوث والإنماء» الذي تعتمده المدارس الرسمية وبعض المدارس الخاصة في لبنان، هو «غير قابل للتطبيق وغير مترابط».
معالجة واقع التربية الموسيقية لا تقتصر على عصرنة المناهج. لعلّنا نفتقر إلى مناهج أكاديمية للآلات الشرقية، تستند إلى المعادلة التي تجمع بين التدوين والارتجال (التقاسيم)، وقراءة نقدية للموسيقى الآلاتية العربية، إضافة إلى مناهج عصرية للصولفيج، ونظريات الموسيقى الشرقية (المقامات، والإيقاعات...).
الراحل وليد غلمية رئيس «المعهد الوطني العالي للموسيقى»، اشتغل على تطوير المناهج. رغم أهمّية ما حقّقه في هذا المجال، لاحظنا نوعاً من المحاكاة للمناهج الغربية في بعض أجزاء المناهج الشرقية، وإغفال خصوصية الموسيقى العربية، وخصوصاً التقاسيم المرتجلة. ثمّة مناهج آلاتية تمثّل إضافة نوعية، لم يتبنَّها الكونسرفاتوار، أبرزها المنهج الذي وضعه مارسيل خليفة للعود، ويُنشر قريباً في ستة أجزاء. يشتمل المنهج على تمارين études، ومقطوعات، وبشارف وسماعيّات ولونغات تخرج عن المألوف، وثنائيات لآلتَي عود، وعود وقانون، وعود وناي، وعود وبيانو، وثلاثي ورباعي العود... «هو ليس منهجاً بالمعنى التقليدي الكلاسيكي، بل كتابة تراعي خصوصية العود، وتسعى إلى تطويره، وتعريف الطالب بماهية وكيفية العزف/ الأداء، والتنقّل بين المقامات» يقول مارسيل لـ«الأخبار».
لا يمكن اختصار واقع التربية الموسيقية منذ السبعينيّات وحتّى اليوم. مؤتمر جامعة الكسليك ليس سوى جرس «إنذار»! لكن هل ثمّة من يسمع؟