عن «منشورات المجلة الفينيقية» في بيروت، صدرت رواية بالفرنسية للكاتبة اللبنانية ياسمين خلاط تحت عنوان «ستقولين لي عند المغيب». تدور القصة حول شابة في عقدها الثالث اسمها كلير، أتت إلى دير للعمل مساعدة تطبع على الكومبيوتر ما تمليه عليها سيدة مسنة تُدعى أورتانس زيمينا. هذه الأخيرة تزعم أنّه لديها مشروع بحث شخصي.يقع الدير في قرية على تلة أحد الجبال. ما من أسماء لهذه الأماكن ولا جغرافيا محددة. كذلك، لا أسماء للبلدان التي نمرّ عليها في الرواية. بلدان تذكرها الكاتبة بغموض كلما تكلّمت عن ماضي أورتانس، أو ماضي كلير، باستثناء إشارتين خاطفتين إلى روما وباريس. ما بقي من أماكن، هو قيد التخمين. قد تكون هذه الأماكن معنيّ بها جبال لبنان ومدن مصر. تكهّن يصل القارئ اليه من خلال الوصف والتلميح اللذين يستقيهما من أسطر الرواية، إلا إذا كانت الكاتبة تقصد اليونان، وأن تكون أورتانس من أصول يونانية لا من جماعة الشوام المقيمين في مصر، ثم الهاربين منها في الخمسينيات.
نطيل التوقف عند التخمينات، لأن الكتاب يدفعنا إلى ذلك لكونه مبهم المكان والمعالم. ما يجعل صمت الرواية يستفز القارئ في كثير من الأحيان، لكنْ ثمة صمت آخر في النص، هو صمت أورتانس القاتل. هذا الصمت يدفع كلير في أحد الأيام إلى التمرد على السيدة، والشكوى من تحفظاتها وأسرارها المكتومة التي لا تساعد على المضي قدماً في البحث المزعوم.
الحوارات قليلة جداً في الكتاب، بل شبه غائبة. ولو حصلت، فهي كلمات يتيمة، متقطّعة وبليدة، لا تقول شيئاً. ترزح أورتانس تحت عبء أسرار شخصية وعائلية. وتدريجاً سنعرف أنّ موضوع دراستها هو البحث في مجال الانتحار وأسبابه. ومن أجل هذا، أتت الى الدير الذي يوفر لها الراحة والهدوء الضروريين للتفكير والكتابة. لا تقول في الرواية إنها تود البحث في مسألة الانتحارات المتتالية في عائلتها، بل تخبر كلير أنّها تُجري بحثاً سوسيولوجياً عن الانتحار، لكنّ الصمت المفرط لدى أورتانس جعل الشابة تحزر في النهاية أن المشكلة تكمن في حياة السيدة العجوز.
من البداية حتى الصفحة الأخيرة، تدور الرواية في فلك الإبهام المكاني، وجو من الغموض في الحدث. ما من شيء يرشح. تستولي على القص سردية التفاصيل المحيطة، بدءاً من حديقة الدير، وصولاً إلى الأشجار والبرد والهواء والمطر. على الأرجح، تتكلم خلاط عن مكان في إحدى قرى لبنان، وعن الراهبات اللواتي تلتقيهن كلير وأورتانس عند مدخل الدير أو على الدرج، وعن الطباخة في مطعم الدير، وعن بعض الطلاب، وعن هاتين المرأتين اللتين تتمزقان في ضباب الصمت الذي فرضته أورتانس. الشابة كلير تكسر جليد الصمت، مهدّدة بالرحيل تارةً، أو موجّهة الانتقاداتها اللاذعة إلى المرأة العجوز تارةً أخرى. وفي نهاية المطاف، تلمّح هذه الأخيرة إلى أنّها إحدى قريبات امرأة منتحرة تدعى «مايا»، وأنّها ليست عالمة سوسيولوجيا، بل متحمسة وفضولية في ما يخص تلك الحادثة العائلية المتكررة في كوارث الانتحارات، وصولاً إلى بوحها بحب قديم فشل ولم يدم في أي حال، بل الأحرى بالكاد بدأ أو لم يبدأ حتى! اكتشفت كلير ذلك مصادفةً، عندما رأت مرة في غرفة أورتانس صورة قديمة بالأبيض والأسود تجمع العجوز وشاباً وسيماً عندما «كانت أورتانس على الأرجح في العقد الخامس من عمرها» حسب قول الراوية، أو الكاتبة. هذا الأمر يبدو مستحيلاً، فأورتانس ـــــ حسب وصف الكاتبة ـــــ قد تكون في الثمانين، ويُحتمل جداً أن تكون قصة الدير قد حصلت أخيراً، أي في السنوات القليلة الماضية. وإذا كانت الصورة المذكورة تشير إلى أن السيدة في الخمسين، فلماذا هي بالأبيض والأسود؟ بحسابات جداً بسيطة، تعود الصورة الى أوائل الثمانينيات، أي في زمن التصوير بالألوان. التناقض الآخر الذي تقع فيه الرواية أن الشاب الذي أُغرمت به أورتانس (وهي تعترف بأنه يصغرها بسنين كثيرة)، كان يتكلم على «السيللولير» وعبّرت له عن رغبتها في أن يكون في حوزتهما «سي دي» للاستماع الى بعض الموسيقى. وكلنا يعلم أنّ مرحلة الثمانينيات لم يكن فيها لا هاتف خلوي ولا قرص مدمج! إلا أنّ هذه التناقضات قد تنتفي إذا كانت أورتانس في عقدها السابع عند مجيئها إلى الدير، فيكون الحدث بذلك قد وقع في أوائل التسعينيات.
مع ذلك، يبقى سؤال: لماذا أوحى لنا جو السرد عند رؤية الصورة بأنها تعود إلى أزمنة قديمة جداً؟ وخصوصاً أنّ الصور بالأبيض والأسود لم تعد موجودة في التسعينيات (إلا إذا كانت أورتانس، أو الشاب، تستعمل كاميرا خاصة).
تنتهي الرواية كما بدأت وتطورت في غياب شبه تام للحدث والحركة، في عمق الصمت والكتمان، ضمن سرد غير معلن. مع كل بساطتها وسكونها، تبقى الرواية قريبة إلى القارئ، ولها وقع خفيف وشفاف عليه.



سيرة

تمثّل ياسمين خلاط (1959) جزءاً من المشهد الروائي اللبناني الفرنكوفوني. ولدت في الإسماعيلية في مصر من عائلة لبنانية. كاتبة وممثلة ومترجمة ومنتجة عاشت متنقلةً بين لبنان وباريس، أخرجت أفلاماً وثائقية عدة، وترجمت العديد من الكتب. ومن رواياتها «اليأس خطيئة» الذي نالت عليه عام 2001 «جائزة القارات الخمس» الفرنكوفونية.