الكاميرا الروسية ماركة «زينيت» التي أهداه إياها خاله، غيّرت حياته جذرياً. جرّب أن يلتقط أولاً صوراً لمملكة نمل عند جدار الملعب البلدي في مدينته النائية الحسكة (شمال شرق سوريا). لم يخطر في باله أنه يرتكب مخالفة قانونية، إذ اقتيد إلى الأمن بتهمة محاولة تصوير مبنى فرع حزب البعث المتاخم للملعب، لمصلحة حزب البعث العراقي المناوئ... وكان عليه أن ينتظر برفقة عنصري أمن نحو ساعتين ـــــ مدة تظهير الفيلم ـــــ كي تتّضح حقيقة مقاصده. فقد كانت الصور الملتقَطة لأسراب نمل فعلاً.
منذ شهر، عاد فصيح كيسو إلى مدينته القديمة، بعد هجرات متلاحقة، وفكّر في أن يستعيد بصرياً أمكنته الأولى. وإذا بعنصري أمن يستجوبانه حول طبيعة الصور التي كان يلتقطها لأطفال يلعبون الكرة في حي شعبي. يقول ضاحكاً: «أدركت أنّ شيئاً لم يتغيّر طوال ثلاثة عقود في الذهنية الأمنية التي تحكم البلد».
لكن المشاهد التي بقيت أكثر رسوخاً في ذهنه إلى اليوم، هي تلك التي عاشها في تل سكير، القرية التي شهدت ولادته، من أب سرياني، نزح من تركيا، إثر نشوب الحرب العالمية الأولى: «أتذكر ألوان الأقمشة البدوية، والريح المحمَّلة بالرمل، التي كانت تهبّ في عواصف متلاحقة، فتطيّر الثياب لتتكشّف الأجساد عن عري مثير».
فكرة العري، وحجاب الجسد، ستلازمه في محطات فوتوغرافية متعددة، لا تخلو من مكابدات، تتعلق بتحريم الصورة. الكولاج البدائي الذي كان يصنعه من بوسترات فرق الروك، وفرقة «البيتلز»، وصور نجوم السبعينيات، ويلصقه على جدران غرفته، سوف يتطوّر لاحقاً، بمهارة أكبر، بعدما انتسب إلى كلية الفنون الجميلة في بيروت. هناك، تعرّف عن كثب إلى تقنيات جديدة، لكن نشوب الحرب الأهلية اللبنانية أطاح مشاريعه إلى حين.
في غرفة على السطح في شارع فردان في بيروت، تمكّن من تصوير شريط فيديو لطائرات إسرائيلية كانت تقصف المدينة خلال اجتياح بيروت 1982، ففكّر بعدها في توثيق عملية الاجتياح الإسرائيلي للمدينة، كما أنجز شريطاً بالأبيض والأسود لشارع الحمرا، محاولاً تسجيل صورة مدينة تتغيّر تحت وطأة القذائف، لكنه سيفقد هذه الأشرطة في مكان ما، ولن يعثر عليها أبداً بعد ذلك.
معرضه الأول «عري» كان في فضاء «تياترو» التونسي، بتشجيع من توفيق الجبالي، وتقديم نزيه خاطر، لكن بيروت ستصدمه حين اعتذرت أكثر من صالة عرض عن عدم استقبال معرضه بسبب مقاربته موضوعاً إشكالياً. يستعيد تلك الصدمة قائلاً «كنت أظن أن بيروت فضاء حرّ، ولم أفكّر لحظة واحدة في هتك المحرّمات، لكنني اكتشفت أن هذه الحرية مجرد قناع زائف، وأن موضوعة الجسد مثيرة للجدل في كل الثقافات، وانتهى الأمر بي في صالة المركز الثقافي السوفياتي، فهو الوحيد الذي غامر آنذاك بعرض أعمالي». ويضيف موضحاً «لم أتقصّد الإباحية بقدر ما كنت معنياً بإبراز جماليات الجسد».
في مطلع التسعينيات حطّ رحاله في موسكو، ليصوّر عشرات الأفلام عن الرقص الشرقي، استكمالاً لمشروعه عن الجسد. وفي ملبورن الأوسترالية، التي هاجر إليها، تابع تطوير اشتغالاته على الجسد في متوالية بعنوان «عري». هذه المتوالية كانت حصيلة خبرة طويلة من المعالجات البصرية للجسد، ومقترحات فنون ما بعد الحداثة. بين سيدني ونيويورك ودمشق التي استقر فيها أخيراً، أنجز أكثر من معرض، متحدياً وجهات النظر الجاهزة في توصيف مختبره. ولا يتردد في المقارنة بين مناهضة أعماله وما واجهه الفنان الفرنسي مارسيل دوشان في عشرينيات القرن المنصرم، إذ صدم الذوق العام الباريسي، حين وضع كرسيّ مرحاض في صالة العرض باعتباره عملاً فنيّاً.
يرى فصيح في العري عودة إلى فطرية الجسد الأولى، نافياً أيّ نظرة استشراقية في مقارباته البصرية. يوضح أن مقارباته تلك جزء من مسعى لخرق الشكل التقليدي للعرض، في محترف سوري لا يزال ينظر بريبة إلى فنون التجهيز، رغم حمولتها المحليّة، إذ إنّ الرقص الشرقي ـــــ كما يلاحظ ـــــ في صلب الثقافة المحلية، وهو يتجاوز النظر الاستشراقيّة إلى «ألف ليلة وليلة» كما توهّمها الغرب.
في معرضه «نافذة لغرفتي»، عالج فصيح كيسو الجسد العاري عبر موتيفات زخرفية على شكل ستائر وأغطية أسرّة، ورفوف مكتبة، داعياً المتلقي إلى مشاركته أسراره الحميمة. وفي معرض آخر، وقف هذا المصوّر المغامر بين الحضور كاشفاً عن جسده في أداء حي، وقد سال الدم منه، مبرراً ذلك بأن «عالمنا يعيش لحظة عنف مجنونة، والدم يراق يومياً، وما أقوم به، هو محاولة لتجميل الجسد بدلاً من تدميره». وفي تجهيز آخر، يمزج ببراعة بين الرقص البدوي، والرقص الشرقي متلمّساً مكمن اللذة الحسية في حركة الأعضاء، وتوق الجسد إلى الطيران خارج الثياب الثقيلة التي تكبّل حركته. وإذا بالأغاني البدوية تختلط بالموسيقى الإلكترونية في حوار عولمي صاخب.
هكذا جمع حصيلة تراكمات بصرية لافتة، في عمله الذي حمل عنواناً غرائبياً هو «تلاعبات، جنس، عرب، وكمبيوتر»، فيما يذهب في تجهيزه «ليس فقط جلداً وقماشاً» إلى تعزيز فكرة غياب الجسد، وحضوره فيزيائياً وثقافياً، في رهان على حرية مفتقدة، وخلاص غير مؤكّد من عبء المحرمات.
لكن هذه المقترحات الجريئة، كانت تُواجَه غالباً بنوع من الريبة، يفسرها فصيح كيسو بأنها نتاج نظرة مستقرة في فهم جوهر الفنون المعاصرة التي ظلت بمنأى عن اهتمامات المحترف التشكيلي السوري، عدا محاولات خجولة فرضتها قوة «الميديا»، وبعض التجارب العربية الأصيلة. هذا الواقع لم يمنع صاحب «الجسد في الغسق» من تأكيد بصمته الخاصة، إذ أسس منذ سنوات «مركز الفنون الجديدة» في الحسكة، محاولاً استقطاب مشاريع شبابية في فضاء ثقافي مختلف، لم تألفه هذه المدينة القصية الغارقة في عزلتها الأبدية.
مشروعه الأخير «استعادة ذاكرة» نفّذه فوتوغرافياً في أماكن مختلفة من شوارع الحسكة. «وجدت من دون عناء، أن كل منظر هو تجهيز، لا يحتاج إلى ترميم» يقول. هكذا استعمل جسده في استعادة أمكنة عبَرها في شبابه الأول، مثل السينمات المهجورة، ومعمل «السينالكو»، ودكاكين الأقمشة، والبيوت الطينية، والأسواق الشعبية، في مدينة لم تتمكّن الحداثة من محو وشمها البدوي.



5 تواريخ

1956
الولادة في مدينة الحسكة ـــــ شمال شرق سوريا

1977
الانتساب إلى كلية الفنون الجميلة في بيروت

1989
معرضه الأول بعنوان «عري» في فضاء «تياترو» التونسي

1992
هاجر إلى أوستراليا، ودرس الفنون المعاصرة في جامعة سيدني

2011
يعدّ لمعرض فوتوغرافي بعنوان «استعادة ذاكرة»