يختلف أمين معلوف عن كثيرين من أقرانه من الكتاب الفرنكفون. هذا الكاتب الذي يعيش في صمت، ويكرس وقته للأدب، لا يهمه الصخب ولا الظهور الإعلامي. لا يمكن أن نغفل أنّه كاتب سياسي أيضاً، بمعنى امتلاكه حساً سياسياً حاداً، يظهر في مقالاته السياسية والفكرية والتأملية. عدا عمله في صحف ومجلات سياسية، منحته ثقافته الشاملة قوة الإقناع والجدل، ومكّنته من استثمار رائع لقراءته المتعددة.
هكذا، أعطانا ــــ نحن القراء ــــ نصوصاً عذبة ومذهلة. وفوق كل شيء، لم يسقط معلوف في دائرة «عرب الخدمة» ولا المستعدين للتصديق على النظرات الإستشراقية التي لا تزال تحاصر عالمنا العربي بتعال ودونية واستخفاف.
منذ 1971، التحق بصحيفة «النهار» اللبنانية، وغطى أحداثاً دولية مهمّة. كان عمله باللغة العربية رغم أنّه يتقن الفرنسية والإنكليزية... لكن لغة موليير كانت تنتظره. في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، رفض أن يكون مع طرف ضد آخر. كان كاتبنا على حق في الهروب، والنأي عن التحالفات التي لا تعيش أطول من الكثبان الرملية. وهنا، ستأتي لعنة/ نعمة المنفى، كأنّ قدر اللبناني هو الرحيل. في فرنسا، كانت مجلة Jeune Afrique السياسية الأسبوعية بيته الأول. بدأ فيها عمله الصحافي، وشرع في كتابه «الحروب الصليبية كما يراها العرب» (1983) الذي شكّل دعوة لقراءة الآخر لفهمه ومصالحته بدل تأجيج حرب الحضارات والديانات.
روايته الأولى «ليون الإفريقي» (1986) حققت نجاحاً كبيراً، فيها اكتشف الكاتب شغفه وانجذابه للتخييل على حساب الصحافة. وتوالت أعماله لكنّه لم يكتف بالتخييل بل تعداه إلى الكتابات الفكرية والتأملات. ومن هنا، ظهر كتابه اللافت: «الهويات القاتلة» (1998). شكّل العمل رداً واعياً وذكياً على كل الأطروحات التقسيمية التي تريد فرض صراع الهويات والحضارات... ولا شك في أنّ كثيرين رأوا فيه علاجاً للكثير من الأمراض التي تهدد المجتمعات الديمقراطية. ولعل ما أثير في فرنسا أخيراً حول نقاشات الهوية الوطنية، يكشف ضحالة الواقع السياسي الفرنسي مقارنة بوعي الكاتب اللبناني.
أمين معلوف يقترح مراكمة الانتماءات والانفتاح على الآخر/ الآخرين. وليس غريباً اختياره لليون الإفريقي، الشخصية الكوسموبولوتية الباحثة عن التعدد. والكاتب ـــ أي كاتب ـــ لا يعرف متى يعود للحديث عن نفسه وجذوره، أو أنه يمارسها بطريقة مواربة. وهنا يمكن الزعم بأنّ كل كتابة تخييلية هي كتابة أوتوبيوغرافية بامتياز. ولعله عاد إلى أصوله وجذوره اللبنانية في «صخرة طانيوس» وهي رواية عن المنفى، منحت صاحبها «غونكور» عام 1993، لتكرسه ثاني كاتب عربي ينال هذه أرفع جائزة فرنسية بعد المغربي الطاهر بن جلون.
يحاول صاحب «موانئ المشرق» جاهداً الدفاع عن مثله الأعلى في الحياة: التسامح والتصالح مع الآخر المختلف. هو القادم من بلد فسيفسائي وتعددي، يريد لهذه التعددية أن تنجح في كل مكان. هذا الآتي من بلد يطل على بحر تقاسمته وتتقاسمه حضارات وثقافات مختلفة وأحياناً متصارعة، يريد تغليب حوار الثقافات والحضارات على كل نزوع لنفي الآخر وسلبه حقه في الحياة والاختلاف.
كتابة معلوف عالمة وممتعة. لا تحس فيها بأي تنازل لا للقارئ كي يدخل في لعبة «الجمهور عاوز كده» فيخسر أدبه وينحط، ولا للغرب باعتباره مقيماً هناك... إنّه من طينة كبار الكتاب الذين لا يعنيهم ما يقول الآخرون. لهم رسالة وسيقولونوها، مهما كانت الظروف، وهنا تكمن قدسية الكتابة. نصوص معلوف تخلق قارئها النوعي الذي يظل وفياً، وهذا هو سر الإقبال الكبير الذي تعرفه نصوصه. ولأنّ صاحب «سمرقند» يريد أن يقول أشياءه، فهو يستخدم مختلف الأجناس الكتابية ليعبر عنها. كتابه «اختلال العالم» (2009) ضمّنه الكثير من أفكاره المبعثرة في مختلف كتاباته. نقرأ فيه ثلاثة فصول شيقة وثرية: «الانتصارات الخادعة»، و«شرعيات تائهة»، و«يقينيات متخيلة»، إضافة إلى خاتمة عنونها: «فترة ما قبل تاريخ طويلة». وضمن «الانتصارات الخادعة»، يعلق ـــ أقلّه في نظر غطرسة السياسة الحكومية الأميركية ـــ على انتصار جيش الاحتلال في العراق. يكتب واصفاً حالتنا في الزمن الغابر: «حين يذهب بي تفكيري إلى أنّ أحد أكبر الشعراء الكلاسيكيين في اللغة العربية يُدعى المتنبي، أي من ادعى النبوة (بصفة حرفية)، لأنّه كان يجوب في شبابه العراق وأرض الجزيرة وهو يدعي هذا الشيء. في زمنه، في القرن العاشر، كان ادعاء النبوة يسبّب عند الناس هزاً لأكتافهم وسخرية وتقطيباً للحواجب، لكنه لم يمنع المؤمنين من الاستماع إلى الشاعر وإظهار الإعجاب بموهبته. لو حدث الأمر اليوم، لأعدم من دون محاكمة، ولتَمّ قطع أطرافه من دون أي شكل آخر من المحاكمات».
ثم يكتب عن الراهن بعد مرور جحافل الجيش الأميركي: «لن تُشفى أميركا من صدمتها العراقية، ولنْ يُشفى العراق من صدمته الأميركية. سيكون ثمة عشرات الآلاف من القتلى الجدد بين طوائفه. طوائفه الضعيفة لن تعثر أبداً على مكانها (في العراق). لا يتعلق الأمر فقط بالمندائيين أو اليزيديين، لكن أيضاً بالآشوريين الكلدانيين الذين يكفي اسمهم لتذكيرنا بلحظات رائعة من مغامرتنا الإنسانية الكبيرة»... كذلك نقرأ: «العالم، بالفعل، يعيش ظروفاً صعبة وقاسية، وقيماً انعزالية، في حين أنه يتوجب علينا أن نخرج من «شرعياتنا القديمة» أي «نحو الأعلى» وليس «نحو الأسفل». ويقترح «تبني سُلّم قِيَم مرتكز على أولوية الثقافة. بل أقول مرتكز على الخلاص عن طريق الثقافة». ثم يصحح ما نُسب لأندري مالرو خطأً بأنّ «القرن الحادي والعشرين سيكون دينياً أو لن يكون»، ويقول: «أفترض أن الكلمات الأخيرة «أو لن يكون» تعني أنه لن نستطيع التوجه نحو متاهة الحياة الحديثة من دون بعض البوصلات الروحية».
ويعدّد معلوف الأسباب التي تجعله يؤمن بوظيفة الكتابة: «لهذه الأسباب وأخرى غيرها، أنا مقتنع بأن سُلَّمنا للقِيَم لا يمكن أن يتأسس اليومَ إلا على أولوية الثقافة والتعليم. وإن القرن الحادي والعشرين، وكي نستعيد الجملة التي ذكرناها سابقاً، ستنقذه الثقافة أو سيهوي». ويشرح: «قناعتي لا ترتكز على أية عقيدة مؤسسة بل فقط على قراءتي لأحداثِ عصري. (...) الديانات التقليدية الكبرى التي أعيش معها تتضمن حثاً على الشيء نفسه: يقول نبي الإسلام: «حبر العالِم أقدس من دم شهيد»، و«العلماء ورثة الأنبياء»، و«اطلبوا العلم ولو في الصين» (...) وفي التلمود نجد هذه الفكرة القوية جداً والمؤثرة: «العالَم لا يحتفظ على تماسكه إلا بفضل نفَس الأطفال الذين يدرسون».
حتّى انتخابه في الأكاديميّة الفرنسيّة، كان معلوف يعيش في جزيرته، حيث أقام محرابه الكتابي بعيداً عن الصخب الإعلامي. ومن المؤكد أنّ عضويّته في «الأكاديميّة» ستسرقه من عزلته المحببة، الخصبة بالحكايات والأفكار. نعم، أمين معلوف كاتب كبير من زمننا. كنا ندرك ذلك قبل أن تميّزه فرنسا، وتجد له مكاناً بين «الخالدين».



مدوّن أيضاً

خلال السنيتين الماضيتين، نشّط أمين معلوف مدوّنة خاصة به، مثّلت مساحة للتفاعل بينه وبين القرّاء. رغم انقطاعه عن التدوين منذ أشهر، «بسبب ظروف صحيّة»، كما تشير ملحوظة تستقبل زائر الموقع، ما زال المهتمون بأدبه ينشرون التعليقات بكثافة، وأكثرها في الأيام الماضية كلمات تهنىء صاحب «ليون الأفريقي» بجلوسه على الكرسي الـ29 في «الأكاديمية الفرنسيّة».
www.aminmaalouf.net