تعيش وحدها منذ سنوات. تفتح نوافذ بيتها، تتنفس هواء الصباح، وتحيي صديقتها التاريخية: «صباح الخير والجمال يا دنيا». هذا هو طقسها الصباحي الذي حرصت على ممارسته كلّ يوم، طوال السنوات الخمسين الأخيرة. تجلس على الأريكة، ثم تدخل المطبخ لإعداد إفطارها. تشرب الشاي، وتعود لتجلس على الأريكة. تحرس صورة كبيرة لهما، هي ورفيق النضال والقلم، زوجها الأديب الراحل عبد الله الطوخي (1926 ــــ 2001). تنظر بقلق ناحية مكتب بسيط، فوقه أوراق مسرحية جديدة لم تكتمل.
«منذ شهر، وأنا غير قادرة على كتابة سطر واحد فيها». تقوم صوب المكتب، ثم تتقهقر سريعاً: «سأكتبها، حين يروق مزاجي». المسرحية عن مصر الثورة، وعنوانها «شجرة الصبار»، وفصلها الأخير ينتهي بأسطورة الشعب يريد إسقاط النظام.
لو لم تعش هوس النضال، والكتابة الجماهيرية للمسرح والتلفزيون، لصارت فتحية العسال «ماما توحة» بائعة جرائد ومجلات على الأرجح. لكنّها مارست ما تعلَّمته طفلةً من أمها البسيطة، ونقلته وما زالت تنقله إلى المئات من أبنائها في السياسة والفن: «لا تُكسب معارك الوعي من دون اتساق وصراحة مع النفس».
يوم تنحّى الطاغية حسني مبارك، كانت في ميدان التحرير. بكت من الفرحة، ومن جرح فراق الحبيب: «افرح يا عبد الله، تعبك لم يذهب هدراً». أوّل تظاهرة شاركت فيها (1954)، كانت تضامناً معه، ومع رفاقه الشيوعيين المعتقلين. كانت ضدّ التمييز في المعاملة الذي مارسته السلطة بين السجناء السياسيين. «قابلت يومها الرئيس الأسبق محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، وقاما بالواجب... بعد أيام، ألقي القبض عليّ خلال تظاهرة قدتها ضد الأحكام العرفية. بعدها تعودت على الزنزانة. أخرج أنا من السجن، يدخل هو. يخرج هو، أعتقل أنا».
في اليوم العالمي للمسرح عام 2004، كانت فتحية العسال أوّل مصريّة يطلب منها «المعهد الدولي للمسرح» التابع لـ «الأونيسكو»، كتابة الرسالة السنويّة. فخطّت رسالة عن المسرح والحياة. ترجم خطابها إلى أكثر من 20 لغة، وعُمِّم على جميع مسارح العالم، كرسائل جان كوكتو، وآرثر ميلر، ولورنس أوليفييه، وبيتر بروك، وأوجين يونيسكو، وسعد الله ونوس. رغم أنّها كتبت مسرحيات شهيرة ــــ غير تلك التي منعتها الرقابة في السنوات الأخيرة ــــ ورغم أنّ العديد من تلك الأعمال ترجم ونال جوائز، إلا أنّ العسال تقول إنّها لم تكتب مسرحها بعد.
ارتباطها بزوجها الماركسي، ثم نشاطها في تنظيم «8 يناير» الشيوعي في عهد عبد الناصر، ومعارضتها «اتفاقية كامب ديفيد» مع الكيان الصهيوني... كلّها خيارات عرَّضتها للسجن ثلاث مرات (1954/ 1956/ 1979). عن السجن كتبت أولى مسرحياتها «المرجيحة». ومن داخل الزنزانة كتبت أيضاً مسرحيتها المؤثرة «سجن النساء».
تعشق الحكايات. تتذكر بشغف ذاك المساء (1957)، حين كانت تعلم الفتيات القراءة والكتابة، وهي لم تحصل مثلهنَّ على شهادة دراسية. «كانت أنوثتي طاغية، فأخرجني والدي من المدرسة، لكنني علَّمت نفسي بنفسي». في يوم من الأيام، جاءتها شابة أمية برسالة كي تقرأها لها. أخبرتها أنّ والدها كلما قرأ تلك الرسالة بكى. وحين قرأت الرسالة، فهمت أنّ زوج الشابة المسافر طلّقها... لأنها لا تنجب الأطفال. نصحها عبد الله الطوخي أن تكتب الحكاية. «كتبتها فوراً، وكانت أوّل مسلسل إذاعي لي، لكنني نسيت عنوانها. صلاح جاهين طار به، وقال إنّه أجمل حوار قرأه في حياته. راقت لي التجربة فحولت رواية «زهرة العمر» لتوفيق الحكيم مسلسلاً إذاعياً». استغرب الأديب المصري جرأة الشابة، «لكنّه فرح بالعمل كثيراً».
أعجبتها «لعبة الكتابة للإذاعة والتلفزيون»، فكتبت قرابة ستين مسلسلاً، ومعظمها عن القهر السياسي وقضايا تحرّر المرأة. «لا يمكن أن تتحرّر المرأة، إذا لم يتحرّر المجتمع كلّه، وإذا لم يتمّ تسييس المرأة والرجل معاً». رئيسة «الاتحاد النسائي التقدمي» في «حزب التجمع اليساري»، تبنّت الدفاع عن قضية المرأة في مصر والعالم العربي. كتبت قرابة ستين مسلسلاً أشهرها «هي والمستحيل»، و«حتى لا يختنق الحب»، و«لحظة صدق». لو أرادت فتحية العسال أن تجني أموالاً طائلة من كتابتها، وتنتج أعمالاً تجارية لاستطاعت. لكنَّها رفضت توظيف فنِّها لتسلية ربات البيوت في النوادي وجلسات النميمة.
حتى بعد «ثورة 25 يناير»، مَنَع «اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري» عرض ثلاثة من مسلسلاتها عن الواقع السياسي والاجتماعي أيام مبارك. «طلبوا مني تعديلات في السيناريو والحوار، فرفضت. لم يتغيّر شيء. الرقابة هي هي». يذكّرها هذا الموقف بموقف أنور السادات من أحد مسلسلاتها «الحب والحقيقة». «كان العمل يحكي عن محامٍ منحطّ أخلاقياً، يقوم بكل الأفعال المشينة باسم سيادة القانون. عرضت منه ست حلقات، ثم أوقفه السادات بعدما قالوا إنّ بطل المسلسل هو السيد الرئيس»، تتذكّر. وتضيف: «مجانين والله».
تدين العسال لأنبل رفيقاتها: البهجة، إذ خففت عنها معاناة التحقيق، والسجن، ووجع الأيام. «من دونها، كان زماني «واحدة ثانية خالص». البهجة صاحبتي. آه. لم أخجل منها، ولم أخفها. حتى في الزنازين، لم أتخلَّ عن قهقهاتي». تصمت قليلاً ثمّ تقول: «أنا أُحِبُّني، أحب الحرية، وغير نادمة على شيء». تصوّب عبارتها الحلوة في وجه كلّ من ينتقد سيرتها الذاتية التي صدرت في أربعة أجزاء بعنوان «حضن العمر» (الهيئة المصرية العامة للكتاب ــــ 2004). فاضت في تلك السيرة بكل شيء. وبصدق بالغ، كتبت عن عذابات الجهل في الطفولة، وازدواجية المناضلين ومدَّعي تحرير المرأة.
كتبت عن السجن الذي علّمها عشق البراح، وعن الضحايا اللواتي بعن أجسادهن من أجل وجبة لحم مشوي، وعن الأمل والحرية. هذه الأيام، تشارك في جلسات المجلس الوطني، بهدف «استكمال مطالب الثورة بيد الشباب، والشابات ـــ تقول ـــ وأنا أوصيهم بحب الاشتراكية وتطبيقها، فهي الأمل للحرية والتغيير الجذري».



5 تواريخ

1935
الولادة في القاهرة

1954
دخلت السجن للمرة الأولى

1969
أنجزت باكورتها المسرحيّة «المرجيحة»

2004
اختيرت لكتابة رسالة «اليوم العالمي للمسرح»، ونشرت سيرتها «حصن العمر»

2011
شاركت في ثورة «25 يناير» مع شباب ميدان التحرير، وتكتب مسرحيّة جديدة بعنوان «شجرة الصبار»