بغداد | تظاهرات عفويّة خرجت في مدن وسط العراق وجنوبه، مساء يوم الجمعة الماضي وما تلاه، تطالب بالإصلاح الشامل، وإن كان الدافع الرئيس لخروج جمهرة من العراقيّين الغاضبين، هو الإخفاق في ملف الكهرباء في ظلّ صيف عراقيّ ملتهب، مع التنويه إلى أنّ هناك مخاوف جديّة وواقعيّة من اختطاف تظاهرات الشباب والناشطين المدنيّين والمثقفين من لدن قوى سياسيّة أو ركوب موجتها، لتكون ساحات الاحتجاج مساحة لتصفية لا نهاية لها بين فرقاء المشهد السياسيّ والحكوميّ.المفارقة المضحكة إنّ أغلب قادة الكتل والأحزاب المشاركة في الحكومة، ومسؤولي حكومات ما بعد 2003، رحّبت بالتظاهرات ودعت إلى حمايتها، وكأنّهم ليسوا المعنيّين بها، وبسببهم تأخّر البلد وهدرت أمواله في سرقات وفساد غير مسبوق.
أتت التظاهرات والنظام القائم الآن في العراق، بعمليته السياسيّة المعتمدة على المحاصصة الطائفيّة والتوافق، قد وصل إلى طريق مسدود، خاصّة بعد إقرار رئيس الوزراء حيدر العبادي بصعوبات تحقّق الإصلاح؛ برفض مسؤولي الدولة والدرجات الخاصّة في الحكومة خفض رواتبهم والقطع المبرمج للكهرباء.

الملمح الثقافيّ حاضرٌ في تظاهرات ساحة التحرير في بغداد الأسبوع الماضي، إذ تناقلت صفحات التواصل الاجتماعيّ صورة متظاهرة شابة تحمل لافتة كُتب عليها مقطع من قصائد الشاعر مظفر النواب :"أروني موقفاً أكثر بذاءة ممّا نحن فيه"، ليكون مضمون اللافتة متفقاً مع واقع الحال الذي يبلغ أقصى درجات السوء والتراجع في مستوى تقديم الخدمة للناس وتوفير أبسط الحقوق، حيث محافظات كاملة ينقطع فيها التيار الكهربائيّ لساعات طوال، ودرجة الحرارة فاقت حتّى الـ 50 درجة مئويّة.

شعارات مستوحاة من أبيات وأغنيات لشعراء وفنانين

متظاهرو مدينة الناصرية وظّفوا أغنية ابن مدينتهم المطرب حسين نعمة، وهي "يا حريمة" (كلمات ناظم السماوي وألحان محمّد جواد أموري) لاحتجاجهم المسائيّ حول ساحة الحبوبي هناك: "يا حريمة انباكن الكصبات من هور الجبايش / ويا هضيمة انباكن النفطات من كاع الطوايف/ يا حريمة انباك صوتي برلمان وكله لوتي/ الما يعرفون الله باكوا حتى فانوس الصرايف" (ومعناها: يا للأسف سرق القصب من هور الجبايش (من أهوار الناصرية)/ ويا للحسرة سرق النفط من أرض الناس/ يا للأسف سرق صوتي برلمان وكلّه محتال/ الذي لا يعرف الله سرق حتّى فانوس الصرائف "بيوت القصب المعروفة جنوب العراق").
وتناغماً مع جو الغضب السائد في محافظات عراقيّة عدة، انبرى شعراء من البصرة بقراءة قصائد بالعامية العراقيّة وسط المحتجّين، ومنها هذا المقطع لشاعر شاب "وعدتونا الجذب يل ما ترحمون/ وبسببكم ضاعت أحلام الطفولة، هسه الشعب كلش ضوجك حيل/ وبالتشييع كلكم تجونا" (وعدتونا بالكذب يا أيّها الذين لا يرحمون، الآن الشعب أزعجكم جدّاً، وبالتشييع كلكم تأتون إليه).
إلا إنّ الصورة التبست بشأن الخطوة التالية، وكان هناك اختلاف واضح يشي بعدم وجود قيادة موحّدة للتظاهرات، ممّا يؤكّد عفويّتها وبالأخصّ في البصرة وبابل والناصرية، مع وجود تقاطع في تقييم الأفق على ضوء الشعارات والهتاف في ساحات الاحتجاج، ومنها شعار "باسم الدين باكونا الحرامية" أي (باسم الدين سرقنا الحرامية)، بعضهم رفض التركيز على إسلاميّة الأحزاب المتهمة بسرقة المال العام طوال العقد الماضي بعد إسقاط صدّام. هنا تكتب الشاعرة والناشرة فائزة سلطان ضمن قراءة لمستقبل الاحتجاج، إذا ما أراد أن ينجح: "الصبغة اللادينيّة والشعارات الماركسيّة التي أراها في صفحات الكثيرين عن المظاهرات في العراق، هي محاولة إجهاض لثورة الشعب ضدّ الفساد. جميع الأحزاب الدينيّة واللادينيّة والقوميّة هي مسؤولة عن فساد الوزراء وأعضاء البرلمان من دون استثناء. فهذه ليست ثورة ضدّ العمامات البيض والسود، هي ثورة ضدّ المنظومة السياسيّة التي تحكم العراق والفساد الذي يعم كلّ المديريات والوزارات وكلّ مفصل من مفاصل الحكم في العراق. فتبرئة الأحزاب الأخرى وصبّ جام الغضب على العمامات الدينيّة هي محاولة فاشلة إن كنتم جادين في التغيير في العراق. الشعب العراقي شعب متديّن ومحاولة وضع الصبغة الحمراء على أي تحرّك شعبيّ سيؤدّي إلى إجهاض هذه الثورة وهذا بالضبط ما تريده الأحزاب الدينيّة».
بعض المثقفين أعلن صراحة عن استعداده للتعاون مع فصائل "الحشد الشعبيّ" التي تقاتل "داعش" في أكثر من محافظة عراقيّة، إذا ما تمّ الاتفاق على النزول إلى ساحات الاحتجاج. وبرز في هذا الصدد تعليق واضح المغزى من لدن الكاتب والصحافي مشرق عبّاس يقول فيه: "الشعب يحبّك ويهتف لك لأنّك تضحي من أجله، التضحية تترجم إلى محبّة وتقدير وثقل اعتباري. أمّا اللحظة التي تقرّر فيها ترجمة التضحية إلى انتزاع كرسيّ وسلطة بطرق غير شرعيّة، أو تقرّر فيها أن تكون الترجمة بمال وصفقات، هي اللحظة نفسها التي ستجد فيها نفسك بلا محبّة وبلا ثقل، فالتاريخ ليس لعبة".