من كنيسة التحرير إلى الاسكندرية: وداعاً عرّاب الكتابة الجديدة

  • 0
  • ض
  • ض

القاهرة ـــ سيد محمود عند الثانية عشرة من ظهر اليوم في «كنيسة الدوبارة» في ميدان التحرير، يشيّع الكاتب المصري الكبير ادوار الخراط (1926 ـــ 2015) الذي وافته المنية أمس. يبدو لافتاً أنّ الكاتب الذي ارتبط إبداعه ومسيرته بفكرة المغايرة والاختلاف والثورة على السائد، تخرج جنازته من الكنيسة التي أمّها المصريون جميعاً خلال «ثورة 25 يناير 2011». ذلك الحدث الكبير الذي هزّ مصر، لم يتمكن الخراط من مواكبته بحماسته المعتادة بسبب غيابه عن المشهد الأدبي في السنوات العشر الأخيرة ودخوله في عزلة اختيارية ردّها المقربون له إلى إصابته بمرض الزهايمر. قبل أيام من وفاته، زاره وزير الثقافة المصري حلمي النمنم في المستشفى حيث أمضى نحو أسبوعين قبل رحيله. عرض الوزير على الأسرة المساهمة في علاجه، لولا أنّ ابنه الطبيب النفسي إيهاب الخراط أكّد للجميع أنّ لا مبرر لذلك لأنّ الأسرة تعتني به على الوجه الأكمل، نافياً ما تردد عن دخول صاحب «رامة والتنين» في حالة اكتئاب حادة بسبب غياب الأصدقاء والتلاميذ عن صحبته، وهو الرجل الذي كان راعياً للجميع بكل معاني الكلمة. بدأ الخراط الكتابة الابداعية في نهاية أربعينات القرن الماضي ضمن مجموعة من المبدعين ضمت الشاعر الذي رحل باكراً منير رمزي، والشاعر أحمد مرسي، وأستاذ الأدب المصري الشهير محمد مصطفى بدوي، والممثل محمود مرسي. جماعة تسميها هالة حليم الباحثة في «جامعة نيويورك» والمعنية بالأدب السكندري والحداثة بـ «جماعة الاسكندرية» التي تواصلت مع الإرث الطليعي الذي كانت تبشر به جماعة «الفن والحرية» ومَن حولها من كتاب سورياليين كانت لهم نظرة خاصة إلى الواقع. لكن الخراط بفضل أدواره المتعددة كروائي وشاعر وناقد لعب دوراً فعالاً في الإشارة دائماً إلى «الشعرية البديلة» وتعزيز إعادة التفكير في الحداثة في سياق المفاهيم المصرية/ العربية النقدية التي قام بصياغتها على مر السنين. المتأمل في سيرته لا بد من أن يتوقف فيها أمام جملة من التواريخ الدالة: هو من مواليد الإسكندرية عام 1926 في عائلة قبطية أصلها من الصعيد. حصل على إجازة الحقوق من «جامعة الإسكندرية» عام 1946، عمل في مخازن البحرية البريطانية في الكباري في الإسكندرية، ثم موظفاً في «البنك الأهلي» في الإسكندرية. بعدها، عمل موظفاً في «شركة التأمين الأهلية» المصرية عام 1955، ثم مترجماً في السفارة الرومانية في القاهرة. شارك الخراط في الحركة الوطنية الثورية في الإسكندرية عام 1946 واعتقل في 15 أيار (مايو) 1948 في معتقلي أبو قير والطور. ثم عمل في «منظمة تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية» في منظمة الكتاب الأفريقيين والآسيويين، الى جوار الكاتب يوسف السباعي من 1959 إلى 1983. وأشرف على تحرير مطبوعات سياسية وثقافية عدة لهما أبرزها «الشعر الأفريقي الآسيوي» و«قصص أفريقية آسيوية» بالعربية والإنكليزية والفرنسية. كما شغل منصب السكرتير العام المساعد في كلتا المنظمتين قبل أن يتقاعد ويتفرغ للكتابة في منتصف الثمانينات. يكشف أرشيف الخراط الدور الذي لعبه في الإشارة إلى كتابات طليعية منها كتابات إبراهيم شكر الله، وبشر فارس، وبدر الديب لتأكيد التفاته المبكر إلى النماذج الخارجة عن المسار التقليدي للأدب المصري في طبعته الرسمية. وبسبب انتمائه إلى الحركة التروتسكية وصفوف اليسار المصري في الخمسينات، تعرض لتجربة الاعتقال، وعاد بعدها ليكرس جهده الرئيس على الترجمة الابداعية والمشاركة بفاعلية في تأسيس «اتحاد كتاب آسيا وافريقيا» ومجلة «لوتس» التي كانت التعبير الأدبي عن نشاط الاتحاد. وعلى الرغم من أنّ هذه المرحلة الوظيفية أسيء تفسيرها كون الخراط عمل مساعداً لرمز ثقافي ينتمي إلى اليمين السياسي هو يوسف السباعي، الا أنّ الخراط لم يخسر حماسه للتجارب الطليعية. عمل على تقديم الدعم والمشاركة في تأسيس مجلة «غاليري 68» التي كانت المنبر الأقوى في الإشارة إلى تمايز كتاب الستينات. كان من أوائل من بشّروا بالمواهب الكبيرة في هذا الجيل، بخاصة يحيي الطاهر عبد الله، وابراهيم أصلان. حس تبشيري تواصل من خلال دعمه لكتاب السبعينات من روائيين وقصاصين وشعراء تمكن معهم من ابتكار مصطلحات مثل «الحساسية الجديدة» و«الكتابة غير النوعية»، و«ما بعد الواقعية» ومشاريع أخرى، عوضت الكسل النقدي في متابعة الاصوات الابداعية الجديدة التي كانت تدين لصاحب «الزمن الآخر» بفضل تقديمها. دور ظل مخلصاً له حتى منتصف التسعينات بمقالاته التي نشرتها مجلات «الجراد» و«الكتابة الأخرى»، و«الفعل الشعري» التي رافقت كتاب هذا الجيل. على صعيد سجله الابداعي الذي نال معه كبريات الجوائز العربية والمصرية ومنها «جائزة العويس»، و«جائزة الرواية العربية»، و«جائزة النيل» وهي كبرى الجوائز المصرية، يبدو لافتاً غزارة إنتاجه، خصوصاً في حقبة الثمانينات التي شهدت سنوات الازدهار الحقيقية لتجربته كمبدع وناقد.

شهدت حقبة الثمانينات سنوات الازدهار الحقيقية لتجربته كمبدع وناقد
وإذا كانت الكثير من الكتابات النقدية تعتبر مجموعته القصصية الأولى «حيطان عالية» (1959) منعطفاً حاسماً في القصة العربية من خلال ابتعاده عن الواقعية السائدة آنذاك، فإنّ روايته الأولى «رامة والتِنِّين» التي نشرت عام 1980 شكّلت حدثاً أدبياً من الطراز الأول. جاءت على شكل حوار بين رجل وامرأة تختلط فيها عناصر أسطورية ورمزية فرعونية ويونانية وقبطية وإسلامية، ومن ثم فهي كتابة كاشفة عن طبقات الهوية المصرية بتنوعها الغني. واصل الخراط ارتياد الطريق نفسه في نصوصه الروائية والشعرية التي تتابعت اعتباراً من منتصف الثمانينات. في تلك السنوات، بدأت طلائع من الكتاب الجدد الالتفات إلى نصوصه، خصوصاً «رامة والتنين» و«الزمن الآخر»، و«ترابها زعفران». الأخيرة لقيت حفاوةً نقدية ومساحة واسعة من التلقي العام إن جاز التعبير بعد سنوات ظلت فيها أعمال الخراط ضحية القراءة النخبوية التي حصرت تلقيها في أوساط ضيقة لا تقاس باتساع مناخات التلقي التي وجدتها نصوص نجيب محفوظ ويوسف ادريس. نصوص يمكن القول إنّه بالإضافة الى قيمتها الفنية العالية، كانت أقرب إلى المزاج العام الذي سعى الخراط لمقاومته حدّ الجهر بعد الإعجاب بأغلب كتابات محفوظ الروائية. ورغم اقتراب الخراط من يوسف السباعي «جنرال الأدب المصري» بتعبير المستعرب ريشار جاكمون خلال العمل معه في «منظمة تضامن الشعوب الافريقية الآسيوية» وفي مجلة «لوتس»، إلا أنّه لم يكن من بين زمرة المنتفعين به أو من بين من أفادوا من رواج الواقعية الاشتراكية ومفهوم الالتزام الأدبي على صورته التقليدية. القراءة المنصفة تقتضي القول بأن كتابات الخراط ظلت ذات نزعة جمالية خالصة، وعانت شكلاً من أشكال الاستبعاد والتهميش الذي تمكن من مواجهته بحضور فعال في أدوار أخرى وممارسة نقدية مكنته أولاً من دعم إنتاج الطليعة الأدبية، وثانياً التأكيد على إخلاصه لمشروعه الأدبي خارج صور الاستجابة للنزعات الجماهيرية وفكرة «الانتشار» على حساب التخلي عن جوهر مشروعه الأدبي، وثالثاً الإشارة إلى قيمة التجاور بين الأعمال الأدبية والتشكيلية. قضية شغلت الخراط الذي اعتبرت نصوصه ومقالاته ساحة لعبور «النوع» الادبي وهي مكاسب استثمرتها الأجيال الجديدة التي ودعته على صفحات التواصل الاجتماعي كمجدد حقيقي.

  • من «مجموعة مؤسسة سلطان العويس»

    من «مجموعة مؤسسة سلطان العويس»

0 تعليق

التعليقات