على «الجزيرة» متظاهرون سوريون وجرحى ودم ورصاص يلعلع في الهواء، والشريط الخبري على الشاشة يقول: «إطلاق نار من قبل (من يعتقد) أنهم عناصر من الأمن السوري». بكثرة، استخدمت «الجزيرة» في الأسابيع الماضية صيغة «من يعتقد أنه» و«حسب شاهد عيان». وهي صيغ مهنية منضبطة وسليمة، وخصوصاً في غياب وسائل إعلام مستقلة عن السلطة في الداخل. لكنّ العجيب أن استخدام «الجزيرة» لتلك الصيغ، تواكب مع أقسى اتهامات وجهت إلى الفضائية القطرية في تاريخها، تتهمها بالكيل بأكثر من مكيال مع الثورات العربية. نحن هنا أمام مفارقة عجيبة؛ فـ«التحريض» الواضح (والمحمود؟) الذي مارسته «الجزيرة» في بداية الثورات العربية في تونس ومصر، وهو تحريض تخلى عن أي حياد إعلامي وانحاز إلى حركة الشعوب، أصبح اليوم ـــــ مع تعقد مسارات الثورة في ليبيا وسوريا واليمن ـــــ سيفاً مصلتاً على سمعة المحطة نفسها.

بعدما تراجعت في تغطية انتفاضة البحرين، واجهت اختباراً أقسى مع «الصديق» السوري، فإذا بها تلتزم «المهنية» فجأة، وتستخدم كلمات مهذبة لوصف صور غير مهذبة. حالما بدأت القناة اعتماد لغة مهنية، لم يعد ممكناً قصر تلك اللغة على الوضع السوري وحده، فانسحبت على تغطية القناة لثورتي ليبيا واليمن. وبعدما كان «رجال الأمن اليمنيون يقتلون خمسة متظاهرين»، أصبحنا نقرأ على الشاشة «مقتل متظاهرين على أيدي عناصر «يعتقد أنهم» يتبعون الحرس الجمهوري».
لم تجد القناة في سوريا عجوزاً أشيب الشعر يمسح بيده رأسه ويصرخ «هرمنا». في السياسة «المهنية» الجديدة، هناك فقط الصور المنقولة عبر الخلوي والإنترنت، وصوت صارم من الاستوديو يقول إنّ الصور مزيفة واتصال ما وراء البحار مع معارض يخضعه المذيع لتحقيق منهك عن التدخل الدولي. الانتفاضة السوريّة أعادت الخبر في «الجزيرة» ليكون مسنداً إلى مصدره، وأصبحت تذكرنا عند كل صورة بأنه لم يتسنّ لها التأكد من مصدر مستقل، وأصبح «الرأي والرأي الآخر» فعلاً لا شعاراً، والحياد الإعلامي البارد ـــ كما نعلم ـــ لا يفرق بين قاتل وقتيل. ربما من حسن حظ ثورتي مصر وتونس، أنّهما نجحتا قبل أن تستعيد «الجزيرة» «مهنيتها».