رغم الحيّز الكبير الذي تحتلّه القراءات التأويليّة للنصوص التأسيسية في الإسلام في الأدبيات التجديدية (محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد وآخرون...) إلا أنّ جدلية الوحي والتاريخ لا تزال فاعلةً حتى اللحظة، وذلك بفعل عامل جوهري، يتمثل في أزمة الصراع بين التأويليين، وقارئي النص المقدس من منظار حرفي. تحت عنوان «القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية» (دار الساقي)، يقدم الكاتب السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد دراسة تمهيدية لإطار فضفاض، أطلق عليه مشروع «ترشيد الصحوة الإسلامية».يجري صاحب «جذور المأزق الأصولي» مقارنة بين التيار الليبرالي والتيار الإحيائي، شارحاً أسباب تراجع الليبراليين لمصلحة الاتجاه الأصولي، من زاوية سطوة البنى التقليدية على ذهنية عربية لم تحقِّق القطيعة مع الماضوية.
يستهلّ حمد معاركه بتعريف القارئ بمفاهيم الصحوة الإسلامية ومتعلّقاتها، مستنداً إلى تصنيفات فهمي هويدي وسعد الدين إبراهيم، وأطيافها المقسّمة إلى صنفين: الأول سياسي والثاني اجتماعي. ترشيد الصحوة الإسلامية، يُحيل إلى ثنائية التحديث والتتريث. غير أن صاحب «الحاكمية» لا يخوض في غمار هذه التجربة الفكرية، بل يسعى إلى التمهيد لتفكيك إشكاليته الأم: كيف نخرج من التقييد إلى الإطلاق زماناً ومكاناً في تعاملنا مع القرآن؟ تقديس التراث ونقده، وإن لم يتبنّه الكاتب، يمثّلان النافذة الأهم لكل تنوير في عين العقل. لكن «القصور الذاتي» على المستوى المجتمعي، يعرقل تطبيق العلوم الحديثة على النص القرآني نفسه، وغالباً ما تسيطر الرؤى المحافظة على مناهج استنطاق المقدس، التي يمكن إعادتها إلى رُهاب السوسيولوجيا.
ينطلق الكاتب بتفكيك إشكالياته بدءاً من «النبوة الخاتمة والكتاب الخاتم»، إلى أن يصل «للخطاب العربي ـــــ الأمي». وفي هذا المحور يستفيض حمد في شرح معنى الأمية، مقارناً بين غير الكاتبين وغير الكتابيين. من الإشكالية إلى مركزية القرآن في الزمن والمتغيرات، يجري مؤسس مجلة «الاتجاه» مقاربة تاريخية/ دينية بين اليهودية والإسلام. إله العبرانيين، وجّه خطابه إلى جماعة قبلية، أما رسالة النبي العدناني، فهي للناس جميعاً. وهي رسالة لم تكتف بالاعتراف بالديانات التوحيدية السابقة، بل بالاسترجاع النقدي «للموروثات التاريخية»، وخصوصاً في القصص القرآنية. وبصرف النظر عن خلاصات الاستشراق التي لم تجد في الإسلام إلا استعادة للنصرانية واليهودية، لا شك في أنّ الإسلام ذو أبعاد عالمية لجهة النسق القرآني نفسه القائم على تبليغ الدعوة للناس جميعاً.
«المتغيرات والرؤية المنهجية للقرآن» هي بمثابة الفيصل، ولعلّ هذا الفصل هو الأهم بين كل الأفكار التي صاغها الكاتب، فهو يدعو إلى مسألتين أساسيتين: ترتيب الآيات القرآنية ضمن وحدتها العضوية أولاً، واستيعاب النص المقدس وفقاً للوضعية الدينية التاريخية ثانياً. يطالب حمد بتأويل القرآن على إيقاع الشروط الزمكانية، لكنّه يبدي قلقه من إثارة حفيظة «التراثيين غير المبدعين»، ويعلن أن للنص أدواته ومناهجه، التي لا بد لها من أن تتناغم مع تحولات العصر، وإلاّ فما معنى «ألا تعقلون».
تطور الوعي عبر التاريخ هو بمثابة الدائرة الأولى للكشف، أي التحري عن «الفهم البشري للقرآن» الذي يمتلك طرائقه وأزمنته أيضاً. وفي هذا السياق، يخرج حمد بخلاصة «أن تطبيق الوعي التاريخي المعاصر على النصوص القرآنية سيؤدي إلى فهم مختلف للكثير من النصوص عمّا كان عليه الفهم التفسيري التقليدي»، ما يعني أن تأويل النص القرآني لا يقتضي القطع مع التراث، بل تفسيره وفق علم الألسنيات والأنثروبولوجيا وعلم الأديان المقارن وغيرها من العلوم الوضعية. الواقع الراهن عكس المشتهى، صوت الانغلاقيين يبدو أقوى، والإدراك العقلي للنص المقدس من التراثيين تحديداً، ما زال في مراحلة الأولى، وهي المرحلة التي يسميها الفيلسوف الأميركي وأحد أعلام الفلسفة البراغماتية جون ديوي بالأنيمية (Animistic stage).
دراسة محمد أبو القاسم حاج حمد عبارة عن إضاءات لمشروع «ترشيد الصحوة الإسلامية»، تبدو كخريطة طريق لأطروحات مستقبلية. لكنّ الافكار التمهيدية شديدة العمومية، وتفتقر إلى نسق علمي جامع، تحديداً إذا اعتبرنا أن فحوى إشكالياته يدور حول موقع الحركات الإسلامية من فقه الواقع المستند إلى ثلاثية التأويل والتفسير والتحليل.