عُرف عن قصيدة النثر المصرية إسهابها في السرد، وخروجها عن الشعرية المعتادة نحو حساسية تراقب ما يحدث، تدوّن مفارقاته، من دون الاهتمام بتصعيده أو إيصاله إلى الدهشة. تنجو الشاعرة المصرية فاطمة قنديل في ديوانها «أسئلة معلقة كالذبائح» (دار النهضة ـــــ طبعة ثانية) من هذا التنميط. صحيح أن نصوصها مكتوبة بإفراط مشهدي ووصفي، حيث تتناسل بعض الأحداث من بعض، إلا أن هذه المشاهد مشحونة بطاقة شعرية، تستمد دهشتها من الحفر داخل المعنى. هنا، يصبح الهروب من القول هو القول نفسه، التفافٌ عليه وعودة به إلى مخاضات تكوّنه الأولى. «ظلّت الصورة شاهداً دائماً على انهيار علاقتهما. بالرغم من أنّها كانت مجرد صورة لأب، يحتضن أحد أبنائه ولا يحتضن الآخر. لا أدري لماذا كنت أرى دائماً الحسرة في عين الطفل الآخر، لعلها حكاية أمي، ذلك الذي لم تغفره قط لأبي وظلّ ساكناً الصورة».تتسلّل قنديل إلى التفاصيل العادية التي نعيشها جميعاً، تسردها ببطء ودقّة، لكنّ النص لا يتبلور إلا حين تُحدث فجوات داخل هذه التفاصيل، لتملأها بخيالاتها الذاتية. خيالات تبحث عن الموت، والخوف، والعزلة في استحضارات ومشاهدات وعناصر، تصل أحياناً إلى حدود السريالية. هنا جثة يطلب صاحبها أن ينثر رمادها، وأن يُلوّن هيكلها العظمي بالأخضر والأصفر. وهي تحرص على إيجاد هذه المناخات السوداوية في ما تكتب. ويمكن ملاحظة ذلك في ديوانها السابق «صمت قطنة مبتلّة»، حيث الذات معرّضة دائماً للتنكيل النفسي، والتنكيل والوجودي، والتحلّل إلى جزئيّات تمحوها مجريات الواقع وقساوته. قد تكون قنديل أرادت استعادة ذاتها المنهوبة، فاستنطقت تفاصيل حياتها وبحثت بداخلها في سبيل ذلك. «جسد يعود إلى أشيائه. يمدُّ يده بعشوائية إلى زرّ الأباجورة، يعرف من الطارق من إيقاع الدقات... وفي تمايز الجسدين ينسرب الويسكي مثل لحن قديم».
أتقنت الشاعرة المصريّة اللعب داخل نصوصها، ولعلّ الطول النسبي لهذه النصوص، ترك مساحات خصبة لممارسة هذا اللعب، واستخدام تقنيات كتابية ومهارات سردية مختلفة. فالوصف والحوار (بالعامية أحياناً)، والسخرية، وإعادة تعريف الأشياء، تختلط كلّها داخل تركيب سردي ممتع وذكي، حرصت فاطمة قنديل على استخراج المعنى من ثناياه. هذا ما أنقذ النصوص مرات كثيرة من الانزلاق في السرد المحض. بسرعة تنقذ فاطمة نصها، بحركة ما تعيد إليه التوتر والوهج والحرارة.