القاهرة | تسقط الأيديولوجيات في السجون. يصمد فقط لون الإنسان. هناك في سجن «العقرب» داخل سجن مزرعة طرة (ضواحي القاهرة)، يمارس الفنان «البلطجي»، عمرو عيسى (1985)، إنسانيّته. التشكيلي المصري المسجون منذ 9 آذار (مارس) الماضي، حكم عليه بالسجن ثلاثة أعوام بتهمة «البلطجة»، واستخدام العنف بحق القوات المسلحة، وحيازة المفرقعات... «أرسم الآن بورتريهات لكل رفاق السجن، بدأتها بالإسلاميين. لدينا أطفال هنا، وصبية، يتأوّهون ليلاً كالمجانين». لكنها أيضاً لحظة إنسانيّة قويّة ونادرة، فـ«السجن ينقِّي الوجوه من آثار التمثيل».
تكشف بذلة السجن الزرقاء ما حاول عمرو إخفاءه بالترحيب الحار: إعياء وبطء في الخطى. بيدِ الرسام الشاب تعلّقت الغجرية كارمن. رسمها بالفحم، ليرسلها معنا إلى معرض «يلّا نرسم حرية» الذي يقيمه أصدقاؤه في شارع قصر النيل، تضامناً معه. أخفيناها، أنا وشقيقه، المخرج المسرحي الشاب مصطفى عيسى، بعيداً عن عيني السجّان، «عَمّ عبيد». تواطأ العم معنا. رسمه السجين وهو يضحك، فأخفى البورتريه عن ضباط السجن. قال لنا: «والله مظلوم. عمرو مش بلطجي. البلطجية هناك في فندق الخمس نجوم الذي يجاورنا». يقصد بذلك سجن الأخوين مبارك، علاء وجمال، وفريق حكومة رئيس الوزراء السابق أحمد نظيف. يسكنون ما يشبه القصر، ويلعبون التنس. «حتى وهم في السجن؟»، يسأل عمرو. عندما نزل نجلا مبارك في المبنى المجاور، هتف التشكيلي الشاب مع سجناء الدرجة الثالثة: «يا جمال قل لأبوك، شعب مصر بيكرهوك».
لكي نتمكن من رؤية الفنان الشاب، كان علينا أن نمرّ على نقاط تفتيش ثلاث. أكثر من مرة، رفض ضباط السجن السماح لنا بالدخول، ثم وافقوا على ربع ساعة، اقتطعوا منها الدقيقتين اللتين يستغرقهما الوصول إلى عمرو. كانت الحراسة مشدّدة، لا لأن الشاب خطر على السلم الدولي، بل لأنّ وصول الرئيس السابق حسني مبارك كان متوقعاً في أيّ لحظة، إذا تحسّنت ظروفه الصحية. التشكيلي الذي يعشق المدرسة السريالية لم ينخرط في أي تنظيم سياسي في حياته. «لم أحبّ السياسة. أنا رسّام على باب الله». يشعل سيجارة، رغم تعب الصدر. يرتبك لأن وقت الزيارة أوشك على الانتهاء. قال إنّه فخور بنجاح الثورة، هو الذي لم ينجح في فعل شيء من قبل.
يرسم عمرو منذ كان في الصف الثاني الابتدائي (1991)، لكنّه لم يدخل «كلية الفنون الجميلة» بسبب «وجع الحياة». توقّف عن الرسم لأربع سنوات (2006 ـــــ 2009)، وعمل في مهن متواضعة لكي يكمل دراسته في كلية التجارة. أقام أوّل معارضه على جدران بيته (1993)، ثمّ أقام معرضاً في «ساقية الصاوي» مطلع عام 2010، ونفّذ ديكورات أعمال مسرحية عدّة في العام نفسه. ويعتزم اليوم إقامة معرض كبير يلخّص تجربة السجن، فور خروجه.
تعرّض عمرو عيسى ورفاقه للتعذيب في مقرّ المتحف المصري في «ميدان التحرير»، ومُنع عنهم الطعام ليومين، إلى أن أصدر القضاء العسكري أحكامه من فوق إحدى طاولات قاعة طعام ضباط. «لم يسمحوا لنا بالكلام، وصوّرونا مع مفرقعات وأسلحة بيضاء، وزجاجات حارقة»، يخبرنا الشاب المعتقل في ظروف غير إنسانيّة.
وقت الزيارة يقفز بسرعة أكبر. يرتبك هو. لا تنطق شفتاه. كأنّه ذلك الإسكافي البائس الذي رسمه بالفحم قبل شهرين. «أريد كتباً وأدوات. طمئنوا أمي، سأعود قريباً من السفر».
في الخارج لا يكلّّ رفاق عمرو عيسى من تنظيم المؤتمرات والفعاليات في الشارع. رائف الكاشف (طالب)، ومحمد طارق (صحافي)، وعلي صبحي (سينمائي شاب)، ورامي عصام (مطرب)، تشاركوا مع عمرو حفلة التعذيب. اليوم، يقودون حملة شعبية لإطلاق سراح صديقهم. تساندهم الفنانة الشابة جيهان فاضل التي كادت تتعرض للاعتقال على يد الشرطة العسكرية. «لا أحد يكتب عن ممارسات الجيش. الكل متواطئ. القتلة يحاكمون أمام محاكم مدنية، وفي وجود محاميهم».
نظّم الرفاق في 27 آذار (مارس) الماضي حملة شعبية للإفراج عنه وعن باقي المعتقلين. نظّمواً مؤتمراً حاشداً في «جامعة عين شمس»، وعرضوا ست لوحات لـ«البلطجي» السجين، إحداها زيتية، والأخرى بالفحم، في معرض الشارع «يلّا نرسم حرية» شارع قصر النيل.
الفنانة عزة بلبع غنّت له في نقابة الصحافيين، وفي المعرض أيضاً. هناك افترش الأطفال الحقائب المدرسية، ورسموا طيوراً بين قضبان، وبيوتاً غير مكتملة.