نحتفي كل عام في الثامن من تموز (يوليو)، بذكرى الشهيد غسان كنفاني (1936 ــــ 1972). في ذلك اليوم، امتدّت يد الغدر الصهيونية إلى الكاتب والمبدع والمناضل في الحازمية بالقرب من بيروت، لتسكت صوته وتحرم الشعب الفلسطيني فكره ونظرته الرؤيويّة إلى الصراع من أجل استعادة الحقوق المسلوبة. لكن هل غسان غائب حقّاً؟ لم لا نستعيد صاحب «عائد إلى حيفا»، في عيد ميلاده (9 نيسان/ أبريل)؟ تعالوا «نحتفل» مع الرفيق غسّان بميلاده الخامس والسبعين...لم يؤمن غسان يوماً بالدوغمائية أو التعصب. اختار لكتاباته أن تتسم بالرمزية، كي يفسح لنا مجال التفكير والتحليل. لقد أراد لنا أن نصنع آراءنا بأنفسنا. والأهم أن نصنع قدرنا بأنفسنا. ومن يبقى حياً فينا، في تفكيرنا ونضالنا ونقاشاتنا وحياتنا. حاول الشهيد في كتاباته ورمزيته أن يضع لنا خطوطاً عريضة، فرفض الإيمان المطلق بالأشياء... إلا المقاومة. وحذرنا من «الموت الطبيعي»، ورفض الإيمان المطلق بالأشخاص والإيديولوجيّات. وحدها فلسطين كانت إيمانه المطلق. وحذرنا من الخيانة. ولعل أوضح مثال على تلك المبادئ يتجسد في روايته «ما تبقى لكم».
في «ما تبقى لكم» خمسة أبطال: مريم، حامد، زكريا، والصحراء. ودائماً، هناك الساعة التي تدق مع كل مشهد. ترمز الساعة إلى فلسطين؛ فهي تدق في الحب والخيانة، وتدق عند المواجهة والهروب. وفلسطين كذلك تشهد على الأبطال والخائنين وتشهد على الثوّار والفئران. والساعة، كما فلسطين، تدق عند الحياة... وتستمر بعد الموت. إلا أن الغرض الأهم من ذاك التشبيه هو التحذير والتذكير. الساعة تذكرنا بقضيتنا: ليس بوجودها فقط، بل تذكير بالواجب وبعار التخاذل، وبأنها لن تفتأ تدق حتى العودة. لذا تبقى الساعة تدق حتى بعد انتهاء الأبطال، كما تبقى قضية فلسطين حتى التحرير. نبّهنا غسان إلى محورية القضية، ومرحلية الأفراد: «إذا كان المدافعون عن القضية فاشلين، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين... لا القضية».
أراد غسان منا ألا ننسى القضية. وتراثه لا يدعنا ننساه، لذا لا يزال حاضراً بقوّة بيننا، بفكره ومسيرة حياته. لكنه ربما كان سيجزع من اليوم لو كان حاضراً، ووجب علينا أن نعتذر له عما يدور حوله. كيف نفسر له ضياع كلماته مثل «مقاومة الفاشيست»، لتحل مكانها كلمة المفاوضات؟ واختفاء «النضال ضد الصهيونية السياسية» ليتحدّث الخطاب الرسمي عن بناء المؤسسات ومناهضة الاستيطان، وزوال «فلسطين» خلف «الأراضي الفلسطينية» وغيرها من المصطلحات؟
يذكرنا غسان كنفاني، كما يفعل ناجي العلي، بأن فلسطين هي فلسطين، وأن بيسان في فلسطين، وحيفا فلسطينية، وبلادنا اسمها فلسطين المحتلة. ويشدد على أهمية الرواية، محذّراً من الرواية البديلة. وقد أوصى بالقضية بغض النظر عن الأفراد: «إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت. إنها قضية الباقين».
لقد غرس غسان الساعة فينا ومضى، فشدد على القضية والمقاومة، وترك لنا حرية التفسير والتحليل. بهذا المعنى، ما زال الكاتب والمبدع والمثقف حياً، لأنّ ما علّمنا إيّاه ما زال راهناً! لكل منّا «غسانه» الذي يرشده. يقول بعضهم لي ولرفاقي إننا نتمادى في عشق الماضي. لكن الشهيد أراد لنا أن لا ننسى التاريخ، وأن لا نسمح لأحد (عدواً كان أو قريباً) بأن يسيطر على عقولنا ويبيعنا «رواية» جديدة. نحن اخترنا أن نلتزم رواية غسان، حباً وطواعية، وسنظل «نحتفل» بيوم ميلاده بدلاً من ذكرى استشهاده.
قد أكون مخطئاً في تحليلي. ولعل الذين حظوا بشرف معرفة غسان حياً، لديهم رأي مغاير. إلا أنني متأكد من أنه سيغفر لي اجتهادي؛ لأنني تعلمت منه أن أثق بتفكيري، وأحلّل رمزيته وشخصيته كما أريد، إلهاً كان أو عبداً. لقد أراد لنا غسّان أن نصنع التاريخ لا أن نشهده فقط. كل عام وأنت بخير يا رفيق. ستظل ساعتك تدق حتى نستردّ أرض فلسطين من مغتصبها، ونحرر العقل الفلسطيني من سجّانيه.
* كاتب وباحث فلسطيني