من قال إنّ الصخور أجرام ميتة؟ في فيلمه «المشي على الصوت» (2010 ــــ 90 د.)، يخبرنا جاك دبس أنّها كائنات تحمل في رحمها صوت الكون، منذ نشأة الزمان. شريط المخرج والكاتب اللبناني المقيم في فرنسا، حصد أخيراً جائزة «أفضل فيلم أوروبي» في «المهرجان الأوروبي للفيلم الروحاني».بين اليابان، وآيسلندا، وكنيسة «سان أوستاش» الباريسية، يحكي لنا دبس تجربة تأليف أوبرا بعنوان «الفراغ». تجربة يخوضها الموسيقي الياباني الشهير ستومو ياماشتا، بمشاركة الكونتر تينور الآيسلندي سفيرير غودجونسون. لمع اسم ياماشتا منتصف السبعينيات، حين قاد فرقة Go المعروفة. في ذروة نجاحه، ترك ياماشتا كل شيء، وانعزل في معبد بوذي في اليابان ثلاث سنوات، بحثاً عن توازن روحاني فقده... حين خرج، ابتكر تجربة موسيقية فريدة. استلهم فلسفة الروحانيات اليابانية، ليصنع آلة موسيقية هائلة بروعتها، مستخدماً حجارة بركانية يبلغ عمرها ملايين السنين. حفر في صخور سوداء وبرونزيّة، متاهاتٍ للصوت، ينقرها، فتنطلق منها أصداء عتيقة، كأنّها فعلاً بعمر الكون.
يبدأ الفيلم بمشهد نهر جارٍ، وينتهي أمام مرآة على ناصية أحد شوارع كيوتو. بين هذا وذاك، نغوص في مختبر موسيقي روحاني رهيب. حاول ياماشتا تأليف مقطوعة تستعيد انبعاث الكون، وتترجم ترددات الانفجار العظيم. طوال عامين، عمل مع غودجونسون على استخراج الأصوات من رحم الصخور، كأنّهما يسترجعان الزمن، منذ الأزل، لحظة بلحظة.
في الخلاصة، أنجز ياماشتا مقطوعة تجمع بين إيقاع أحجاره، وخليط من الصلوات الآرامية واليابانية والآيسلنديّة القديمة. ثمّ قام غودجونسون بترتيل تلك الملحمة، مع كهنة معبد دايتوكو ـــ جي الياباني، والسوبرانو السورية نعمى عمران... عزفت المقطوعة في كنيسة «سان أوستاش» الفرنسية عام 2009، في الذكرى العشرين لسقوط جدار برلين. ليست قصّة الفيلم وحدها ما يدهش في «المشي على الصوت». لسنا هنا أمام وثائقي تقليدي يصوّر، بحياديّة، تجربة موسيقيَّين مسكونين برغبة استعادة صوت الكون الأول. يدخل دبس وعدسته في اللعبة، ليؤلف مقطوعة سينمائية توثيقية خاصة، تنسجم مع موضوعها، لا بل تتقمّصه. يوثّق أفكار الفنانين وعلاقتهم بالطبيعة ضمن سرد متين أشبه برؤى مسرح الـ Nô الياباني. هكذا نتنقل بين الكنيسة الباريسية، ومحترف ياماشتا في اليابان، وأماكن أخرى يطغى عليها السكون... كأننا نخوض مع الأبطال رحلة تطهُّرنا الخاصة، من فوضى الكون وكوابيسه، إلى حالة البراءة الخالصة.