في 12 آذار (مارس) الماضي، على «مسرح لايسنر» في «جامعة جورج واشنطن» في العاصمة الأميركية، اختار مارسيل خليفة أن يختزل كل الغضب المُتفجّر في العالم العربي من خلال الموسيقى. عزف كونشرتو الأندلس، ليستحضر لنا سحر التلاقح الثقافي بين الشرق والغرب.
بدأ الاحتفال براقصات فلامنكو تفجّرت طاقاتهنّ على الخشبة في دوّامة من الإيقاعات والمشاعر المضبوطة، وثورة الأجساد. الفلامنكو في هذا الإطار لا يمكن إلا أن نضيف أبعاده الكثيرة، تلك الصرخة على الصمت، وعلى النسيان. بعدها أطلّ مارسيل ليقود جيوش الثورة المتناثِرة على غيوم شجن تلبّد بها المسرح. هكذا لمسنا تكوّن بُرعم ثورةٍ جديدة هيمنت على حواس الجمهور المختلط من عرب وأميركيين.

ثورة الدم على الصمت، ثورة الوتر على الظُلم، على الصمت، وعلى الموت.
تستفيق ثورة التاريخ على النسيان، ثورة الأندلس على كُتب التاريخ وسِجن الكلمات. النوافير الأندلسية تتدفّق دوماً من على عود مارسيل. ينتفض قلب مارسيل كطفل صغير ما زال يحتمي بيدي أمه، كعصفور يحتضر. بدا كطائر الفينيق تلك الليلة، يحترق بموسيقاه وينبعث من رمادها، مراراً وتكراراً.
يفعل مارسيل خليفة كل هذا قبل أن يُقرّر أن يتحدّث إلى جمهوره، ويحيّي الثورات العربية. لكنّ حديث الثورة عنده لا يحتاج إلى كثير من الكلمات. إنه لا يحتاج إلى الصراخ، بل إلى همسات العود. يعلمّنا هذا الفنّان الذي استعاد هنا نفَسه الثوري ـــــ بعدما لامه جزء من جمهوره على الاستقالة أو التسويات المختلفة ـــــ أن العُود ليس مطفأة للحزن بل شرارة للغضب. يعلمنا أن العود هو جسر إلى ذواتنا. وها قد عاد العُود يستعيد ثوريّته الأولى، في زمن الثورات، ليوقظ وعينا بهويتنا. تفرّد حضوره، من بين آلات الأوركسترا، ليحرّك مخزوناً من الأصوات المكمّمة، والأحلام الممكنة في مدن حزننا!
وقبل أن يختتم مارسيل الليلة، شدّنا معه إلى طيف محمود درويش، محتفياً به في يوم ميلاده، واستحضر صوته وهو يسكب علينا كلمات قصيدة «أمرّ باسمكِ». ثمّ اعتذر من الجمهور غير العربي ـــــ الذي كان عدده لافتاً ـــــ متمنّياً عليهم أن يشعروا بروح الكلمات وإن لم يفهموها.
صاحب «ريتا» و«جواز السفر»، كما أعدنا اكتشافه في واشنطن، هو المغنّي الملتزم الذي نشأت أجيال على أغنياته، أيّام اليسار والأمل. وكان لا بدّ من الثورات العربيّة، كي تعيد إلى مارسيل شبابه الأوّل ...