قد تبدو محاولة تفسير أعمال الفنان الألماني هارون فاروقي (1944) مباشرةً، نوعاً من العبث. هو يهتم بالصورة وواقعها، وعلاقتها بمحيطها الإنتاجي والاجتماعي. من خلال أعماله ـــ سواء السينمائية التي تتخذ طابعاً تسجيلياً تجريبياً، أو في تركيباته المتعددة لفن الفيديو ـــ تُناقَش طبيعة الصورة من خلال ربطها بمحاور رئيسية عدة، أهمها الصناعة ووسائل إنتاج تلك الصور وحفظها، والإعلام الذي ينقلها، وصولاً إلى المشاهد الذي يقع على عاتقه تفسير ما يرى ـــــ مجبراً أو مخيراً ـــــ في مجتمعات رأسمالية أصبحت فيها المفاهيم مختلطة.
ما يطرحه فاروقي هو محاولة الوصول إلى المفاهيم المغيبة في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، عبر الصورة المؤرشفة، ومناقشة السينما وتاريخها وعلاقتها بالمجتمع عبر تلك الصور. في فيلمه «النار المتعذّر إطفاؤها» (1969)، نرى ما يشغله سينمائياً: السياسة والصورة والتصنيع. الفيلم يندرج ضمن عروض يقدّمها «مركز بيروت للفن» لأفلام الفنان الألماني في مناسبة معرضه الفردي «أشغال صورة» الذي يستمر حتى 9 نيسان (أبريل) في المركز.
في «النار المتعذّر إطفاؤها»، يقدم فاروقي موقفاً سينمائياً عن قنابل النابالم التي استخدمها الجيش الأميركي في حرب فيتنام. بداية، نراه جالساً إلى مكتبه يقرأ رسالة موجّهة إلى الجمهور: «عندما نريك صوراً لضحايا النابالم، ستغلق عينيك. ستغلق عينيك للصورة، ثم للذاكرة، ثم للحقائق». بعد توضيح فظاعة النابالم، ننتقل إلى المصنع. هنا تبدو الوسيلة متشابهة حالما حدّدتها الغاية، فلا فرق بين المكنسة والرشاش. يقدم فاروقي المصنع وعملية التصنيع كرسالة سياسية تورّط المشاهد.
أما في فيلمه «كلمات الرئيس» (١٩٦٧)، فيدور المحور حول العنف والكلمات الثورية. جاءت فكرة الفيلم عندما كان فاروقي في طريقه إلى فنزويلا، بينما كان شاه إيران وزوجته في برلين الغربية. يقطع أحد الأشخاص صفحة من كتاب ماو تسي تونغ، لتتحول إلى صاروخ ورقي يطلقه باتجاه الشاه وزوجته ليفسد عشاءهما. تبدو هنا الاستعارة مباشرة، تتمثل في أنّ كلمات ماو سلاحٌ. قال فاروقي عن الشريط مرةً: «هذا يبين أن الكلمات قد تصبح سلاحاً، لكنه سلاح ورقي. أظن أنّ الناس قد فهموا أنّ هناك نوعاً من السخرية في هذا الوضوح».
وإذا كان تعريف الأرشفة هو الاحتفاظ بسجلات تأريخية في مكان واحد، فعملية الاطلاع على تلك الوقائع، أو محاولة فهمها في سياقها الأصلي، ليست سهلة. الصورة عند فاروقي ـــــ سواء القادمة من مصادر متعددة كصور فوتوغرافية، أو تسجيلات وثائقية قديمة أو حتى كاميرات مراقبة ـــــ تعامل أحياناً كشكل واحد بهدف محاولة تحليل الروابط الداخليّة بينها. فيلمه «صور العالم وكتابة الحرب» (١٩٨٨) يبحث في مفهوم الإدراك عبر الصور المؤرشفة كالصور الجوية لمعتقل أوشفيتز، والتأويلات المختلفة التي قدّمها خبراء من الـ CIA للصور بعد إعادة اكتشافها. وفي عمله التركيبي «عين/ آلة» (2000)، نشاهد عنف صور حرب الخليج وتأثيرها على الحياة المدنية.
كما في مواده الوثائقية، تطرح أعمال فاروقي التركيبية في فنّ الفيديو مواضيعه الأثيرة نفسها. هذا ما نشاهده في معرضه «أشغال صورة». في تجهيز فيديو «واجهة بينية» (1995)، يشبّه فاروقي عمله بالمختبر، مظهراً طريقته في العمل بالصور المؤرشفة بدلاً من خلق صور جديدة، وهو إحدى قواعده الأساسية في العمل. «لا ممثلين، ولا صور أقوم بخلقها، ولا مقابلات مع الأشخاص المعنيين في العمل الوثائقي» كما يقول. وفي تجهيزه «حسبتني أرى مدانين» (2000)، نرى تسجيلات لكاميرات مراقبة في سجن أميركي. يضع فاروقي طبيعة العنف الذي تقدّمه الصورة الواقعية، أو الممثلة، في مواجهة مع طبيعة العنف الذي يمثّله مركز الاعتقال في سياقه الرأسمالي. كذلك، سنرى مشاهد العمّال وهم يغادرون المصنع في «عمّال يغادرون المصنع بعد 11 عقداً» (2006)، الذي يطرح مسألة تمثيل العمّال والمصانع في تاريخ السينما. هكذا، نرى العمال «يهربون» في دلالة إلى نظرية ماركس في اغتراب الإنسان في إطار عملية الإنتاج.


«أشغال صورة»: حتى 9 نيسان (أبريل) المقبل ــــ «مركز بيروت للفن» BAC (بيروت). 01/397018