من المثير والطريف في آن معاً، أن يخطر في بال فنّان أن يزاوج بين الـbel canto والموسيقى العربية. الفكرة لا تخلو من الغرابة، لدرجة تبدو غير قابلة للتطبيق. قبل سماع ألبوم «تينو فافازا وأوركسترا الجذور الشرقية» لميشال ألفتريادس، قد تظنّ أنّه لن يندرج إلّا في خانة الفنّ التجاري. تحاول تكهّن نتائج هذه التجربة، وتحصي المطبّات التي قد تنزلق إليها: الهجانة، والاستسهال، والتقليد... ثمّ لا تلبث أن تغيّر رأيك بعد سماع أغنيتين أو ثلاث، مكتشفاً أنّك أمام عمل موسيقي شعبي مقنع نسبيّاً.
فعلها «إمبراطور جمهورية نوويريستان» المسكون بلوثة التجريب! بعد الدمج بين الطرب والموسيقى الغجرية الإسبانية (وديع الصافي وخوسيه فرنانديز)، مروراً بالـ«أرابو ـــــ كيوبن» (حنين أبو شقرا)، وخليط «اللبناني ـــــ اليوغوسلافي» (طوني حنّا)... ها هو يصل إلى الأوبرا الإيطاليّة. عمد ميشال ألفتريادس إلى إلباس الموسيقى العربية ثوباً معولماً، من دون أن يجرّدها من خصوصيّتها. نجح حيناً، وتعثّر حيناً آخر من دون أن يكفّ عن محاولة الإتيان بجديد.
وإذا كان لا بدّ من دليل على نجاح مقاربات ألفتريادس في مجال المزج، فهو احتضان «مسرح كازينو لبنان» لتجربته الجديدة... يستضيف الكازينو، على مدى أربع ليال متتالية، ابتداءً من التاسعة مساء الأربعاء 30 آذار (مارس) الجاري، التينور الإيطالي تينو فافازا وبرفقته ميشال وفرقته التي تحمل اسماً معبّراً «أوركسترا الجذور الشرقية». تضمّ الأوركسترا عشرين عازفاً، أبرزهم نهاد عقيقي (قانون)، وسمير سبليني (ناي)، وجوزف سجعان (أكورديون).
يشتمل برنامج «الكازينو» على أكثر من 12 محطّة غنائية تتوزّع بين الغناء الأوبرالي الكلاسيكي بتوزيع شرقي (La Donna è Mobile من الفصل الأخير من أوبرا «ريغوليتّو» لفيردي)، والغناء التراثي في صقليا ونابولي ممزوجاً بأنغام شعبية مصرية («سانتا لوتشيا»، يتخلّلها عزف للحن «طلعت يا محلا نورها»)، إضافةً إلى أغنية لبنانية على الطريقة الأوبرالية («أعطني الناي وغنّي»)، وهي الأنجح بين الأنماط المؤدّاة... قد يأخذ بعضهم على ألفتريادس عدم محافظته على خصوصية الأوبرا والـbel canto، خصوصاً في مجال المرافقة الآلاتية والهارموني والتوزيع. لكن في المقابل، ثمّة إيجابيّات لهذه التجربة، أهمها توسيع دائرة الـbel canto، والإسهام في انتشاره عربياً.
خامة تينو فافازا وأداؤه الفريد، يمثلان ضمانة لنجاح هذا العمل (أقلّه لبنانياً وعربيّاً). الـbel canto (الغناء الجميل حسب الترجمة الحرفيّة، وهو تقليد عريض في الموسيقى الكلاسيكيّة يعود إلى إيطاليا القرن السابع عشر) يتطلّب تفخيماً صوتياً، ويتيح للمغني مجالاً لعرض براعته. يلامس الغناء الأوبرالي (أو lyrique)، ويتعارض مع الغناء البوليفوني (القائم على تعدّد الأصوات)، ومع تيّار الأوبرا الجديد الذي نشأ مع برليوز وفاغنر وكلود دوبوسي...
ومع أنّ عناصر الأوبرا لا تتناغم مع خصائص الموسيقى العربية، لم يوقع الدمج بين هاتين الثقافتين الموسيقيّتين الألحان العربية في فخّ «التغريب»: «حاولتُ أن أقلب المعادلة، وعمدت إلى «تشريق» الغناء الأوبرالي»، يقول ألفتريادس. هو ليس مؤلفاً موسيقياً بالمعنى الحصري للكلمة، بل معدّ ومنتج موسيقي أيضاً. يعتمد على التوليف، والتركيب، وتلاقُح الأفكار الموسيقية، ويرقب الموسيقى والغناء المعاصر بمنظار تسويقي. لذلك لا يوفَّق دائماً، رغم جرأته وخصوبة مخيلته.
لقد بنى إمبراطور «اللامكان» نفسه بجهود شخصية، معتمداً على متابعته لحركة موسيقى الشعوب، والموسيقى العربية والعالمية. يمزج ميشال ألفتريادس بين مقاربته الذاتية ومقاربات العازفين (في الفقرات الارتجالية تحديداً)، للوصول إلى مادّة موسيقية أكثر تكثيفاً وإطراباً. رغم أنّ الإفراط في الاستعانة بالآلات الإيقاعية قد أثقل الأسطوانة، تستحقّ تجربة فافازا مع «أوركسترا الجذور الشرقية» التوقّف عندها، إذ تقدّم مادّة قابلة للجدل والتطوير.



«تينو فافازا وأوركسترا الجذور الشرقية» لميشال ألفتريادس : التاسعة ليلاً ــــ من 30 آذار (مارس) الجاري إلى 3 نيسان (أبريل) ــــ مسرح «كازينو لبنان». للاستعلام: 01/999666