على صفحته في موقع «فايسبوك»، كتب أحد الإخوة الخليجيين عشيّة تظاهرات خرجت في بلاده للمطالبة بإصلاحات دستورية: «السلام يسكن قلوبنا، نحن مطوّقون بالورد وبقلوب فاتنة لا تريد سوى السلام» (الشاعر زكي الصدير). أرسلت له: «هذه هي المشكلة.
إننا نريد السلام، وهناك من يريد حرماننا منه».
أليس السلام شيئاً بسيطاً مقابل تقسيط المواطنة على درجات أولى وثانية ومعدومة ومتجاهلة ومنسيّة؟ أليس السلام شيئاً حقيراً مقابل ما يبتلعه فرد واحد متآمر على خير البلد، والبقية تنام جائعة معدومة ومحتقرة، لا تدري ما ستفعله لو قررت أن تنتهج تغييراً بسيطاً في حياتها كالاقتران بشريك أو الدراسة بعد المرحلة الثانوية أو شراء منزل أو الحصول على سيارة بعد النجاح في اختبار «السواقة»؟
السلام الذي يسعى إليه الأفراد زهيد جداً، لكنه مكروه من الحكومات، لأنّها لا ترغب أبدا في أن يرسم لها أحدهم طريقاً جديدة. فقد اعتادت طرقها القديمة، والتفكير وحده في هذه التاء (تاء التغيير) شيء مستبعد جداً لها. حتى لو قررت أن تغيّر طريقة تفكيرها، تجدها تغير القشرة بما يقتضي شكلاً جميلاً مبهراً حديثاً، لكنه من الداخل هو ذاته الشكل البشع.
(1)
ما زلت أذكر بوضوح ليلة 10 شباط (فبراير) حين كانت أنظار العالم متجهة إلى مصر، وهناك خطاب سيبث للرئيس المخلوع حسني مبارك: كنت أنتظر بحماسة وتعب أمام شاشة التلفاز حتى غفوت من شدة التعب ولم أسمع خطابه. كنت أتوقع ليلتها أن يعلن تنحيه عن الحكم ويبقي شيئاً من ماء وجهه محفوظاً. غفوت على هذه الأمنية واستيقظت لأجده في كرسيّه يسخر من المصريين ويقول إنّه سيكلف نائبه عمر سليمان بالقيام بأعماله!
تذكرت حينها قول جاك بوسويه: «أعظم صور الضعف هي الخوف من أن تظهر ضعيفاً». وهذا تحديداً ما يجعل الأوضاع في البحرين تزداد سوءاً وقائمة الضحايا تطول. إنّهم يخافون من أن يظهروا ضعافاً. ولذلك، فقد قرروا فتح النار على الأخضر واليابس، وتطويق البلد المسكين الصغير بالرصاص والغازات الخانقة والمرتزقة الذين يريدون أن يعيشوا على دماء الشرفاء.
إنهم يريدون أن يقولوا إنهم أقوياء برصاصهم وإعلامهم والمصطفّين إلى جانبهم، لكنهم ينسون أنّ الشيء الذي يزداد عن حده ينقلب إلى الضد.
(2)
الحكومة التي تتباكى برموزها بعد سقوط الشهداء وتعتذر وتتوعد الجاني بالحساب الشديد، تعود لترسل مرتزقتها في حرب شعواء على الأهالي والمدارس والجامعة.
هذه الحكومة نفسها التي جعلت جزيرة البحرين منتجعها السياحي وحديقتها الخلفية وحرمتنا من مشاهدة البحر وبث شكوانا إليه. أقول هذا وقلبي حزين. فلي ابنة تحب السباحة في البحر، ولي قرية ساحلها مستملك من امرأة من أبناء العائلة الحاكمة. وما يجعلني أشعر بالمرارة حديث القناة الرسمية الآن عن القانون الذي يجب أن يخضع له الجميع، وعن الحوار الذي دعا إليه وليّ العهد بلا شرط. والمصيبة أنّ الشروط التي طرحتها المعارضة كانت كضمانة لعدم ضياع دماء الشهداء، وتضحيات هذا الشعب الذي تلقى أكثر من طعنة في ظهره.
في البحرين، لا تعرف السلطة متى تكون الأمور الأمنية مستقرة. هناك دوماً وأبداً خوف من انقلاب على الحكومة. ولذلك، يعتقل بين فترة وأخرى مواطنون أحرار بهذا الجرم الفضفاض. وقديماً قيل «اللي على راسو بطحه يتحسسها». فلو كانت هذه الدولة ذات نهج سوي عادل، لما خافت من انقلاب أو غيره، بمعنى آخر وكما يقول المصريون «امش عدل يا ولد يحتار عدوك فيك».
(3)
قبل أيام قليلة، كان درسي للتلاميذ عن أدوات الاستفهام. وحين طلبت منهم توظيفها في أسئلة، قال لي أحدهم: لماذا لا يسقط النظام؟ فيما قال طالب آخر: أين يقع دوار اللؤلؤة؟
ابتسمت في داخلي واعترفت للمعلّمات بأنّ هذه الثورة ـــــ ثورة اللؤلؤة ـــــ غيّرت فينا الكثير. غيّرت الكبير والصغير في آن. صار لدينا جرأة على ما كان مسكوتاً عنه في السابق، فيما فتحت لي إحدى المعلمات كتاب اللغة العربية لأحد الطلاب وقالت: «انظري». وكانت هناك عبارة تقبع في أعلى الصفحة الأولى من الكتاب «الشعب يريد إسقاط النظام».
لم نعلّمهم شيئاً عن الثورة بعد، رغم الثورة التي تتنازع ضمائرنا وتدعونا إلى أن نشرح لهم أنّ هذا الوطن في غرفة الإنعاش، يطلب من كل فرد منا أن يغيثه من شر الفساد والتمييز والتجنيس السياسي والموت البطيء على أيدي الظلَمة الذين يهدرون كرامته في كل حين. يطلب منّا أن نعلّم الحكومة الدرس الذي لا تريد أن تتعلّمه وهو أنّ هناك أشياء ليس بمقدورها أن تشتريها أو تبيعها، وأنها لن تستطيع أن تدفع ثمن الحرية التي يريدها شعب البحرين.
(البحرين)