يوسف قادم من بعيد. اللقطة طويلة. لا شيء إلا الثلوج وعلى رصيف الميناء،
وباخرة جانحة ترافقه بأنين معدنيّ. نحن في فيلم «بعيد» (2002). جاء من قريته وانقضّت عليه اسطنبول.
خسر يوسف وظيفته عاملاً في أحد المصانع، فسافر إلى اسطنبول للإقامة مع قريبه محمود. يعتقد الشاب الأمّي والبسيط حدّ الكسل، أن فرصة الحصول على وظيفة بحّار أمر في غاية السهولة، لكنّ الواقع مختلف. أمّا محمود، فمصوّر ثريّ ومثقّف يتابع أفلام كبار السينمائيين، وتبدو فرصة الانسجام بينه وبين قريبه القروي ضئيلة. في نهاية الفيلم، يسافر يوسف من دون إخبار محمود القابع وحيداً على رصيف الميناء يراقب السفن.
في «مناخات» (2006)، باهار ممدّدة على الشاطئ، وحبيبات عرق متكاثفة على بشرتها، فجأة تنتفض على كابوس يخنقها فيه عيسى بالرمال. ومن الرمال إلى الثلوج، تتوالى مناخات حبّ هارب. تشهد فصول السنة مراحل انهيار علاقة. عيسى أستاذ جامعي، وعشيقته باهار تصغره بسنوات، وستهجره في النهاية. في شريطه الشاعري هذا، يؤدّي نوري بيلج جيلان دور البطل، فيما تؤدي دور باهار، زوجته إيبرو جيلان.
مع السينمائي التركي نوري بيلج جيلان (1959)، تصحو اللقطات. سيكون السرد البصري الذي تقترحه أفلامه شريطاً متوالياً من الجماليات التي يقدّم فيها عوالمه. ومع كل فيلم، هناك مقترحات وعوالم جديدة. في «ثلاثة قرود» (أفضل إخراج في «كان» ـــــ 2008) سيتكئ على بيت مجاور للبحر، وسكّة قطار. اللقطات الطويلة نفسها. التباين في الصورة على أشدّه، مع جرعات دراميّة عالية تبدأ منذ اللقطة الأولى، وذاك السائق الذي يغالب النعاس في طريق معتمة ومقفرة. إنه أول القرود، ورأس المصائر التي سرعان ما يحتشد بها الفيلم.
السائق هو سيرفت الثريّ، يكون في طريقه إلى دخول الانتخابات من بوابة الإسلام السياسي. لكنّه يدهس أحدهم، فيكون كبش الفداء أيوب الذي سيمضي عقوبة السجن عوضاً عنه. سيهجر زوجته هيثر وابنه اسماعيل ويقبع خلف القضبان لقاء مبلغ من المال. إنهم قرود ثلاثة حول هيثر، الزوج والعشيق والابن! سرعان ما ستقع هيثر في شباك سيرفت. سيكتشف الابن ذلك، وحين يخرج أيوب من السجن يتّضح كل شيء. وسيكون على أيوب أن يفعل ما فعل سيرفت معه لينقذ ابنه.
البناء الدرامي للفيلم لن يفارق السرد البصري. ستكون وجهات النظر حاضرة لكل شخصية عبر زاوية تصوير الكاميرا. تمضي العدسة مع كل شخصية على حدة باستثناء سيرفت، بما يجعل الكاميرا الموضوعية ذاتية أيضاً وفق كل شخصية. سنعرف أن هيثر أمست عاشقة متيّمة بسيرفت، وهي تتوسله في لقطة بعيدة لهما على جرف صخري بجانب البحر. يحضر أيضاً ماضي العائلة المأساوي من خلال الطفل الذي يخرج على الابن اسماعيل وهو مبلّل لنعرف أنّه أخوه الذي مات غرقاً. كذلك الأمر مع أيوب الأب، حين يحاصر بخيانة زوجته، ستلامسه يد صغيرة، إنّها يد ابنه الغريق. سينزل إلى الشارع وينظر إلى أعلى متأكداً أن هيثر قد عدلت عن فكرة الانتحار بإلقاء نفسها من الشرفة. سيجد في الجامع ملاذاً، لكنّه سيكون مضطراً في النهاية إلى البحث عن كبش فداء لابنه.
ستلحق الهزيمة بهم جميعاً. سيكون لكل واحد منهم كذبته، ولن تكون الميلودراما إلا مساحة لتسليط الضوء على الازدواجية في الحياة والمواقف وصولاً إلى مأساة أن يكونوا كذلك. هناك توقيع خاص بنوري بيلج جيلان مع كل فيلم يقدّمه، وقد انتهى أخيراً من تصوير جديده «حدث ذات مرة في الأناضول». تمثّل أعماله معبراً استثنائياً نحو سينما مغايرة، على وفاء تام للمعلمين الكبار، وأوّلهم أنطونيوني. الفكرة في «ثلاثة قرود» ـــــ كما كان ليصفها المعلم الإيطالي ـــــ لا تعدو كونها «مراقبة واقعية الأشياء».


«بعيد»: 8:00 مساء 17 آذار (مارس) الجاري.
«ثلاثة قرود»: 8:00 مساء 18 آذار (مارس) الجاري.
«متروبوليس أمبير صوفيل» (بيروت)