الرياض | يبدو أنّ «معرض الرياض الدولي للكتاب» هذا العام قد انتهى قبل أن يبدأ. بدا ذلك واضحاً مع الأنباء عن حجم القيود التي سبقت المعرض، ثمّ تأكد مع افتتاحه يوم الثلاثاء الماضي، وهجمة «المحتسبين» (المطاوعة) عليه. كان من الواضح أن جهات محافظة قرَّرت إفشال النموذج المنفتح على الفكر والكتاب الذي قدمه المعرض في السنوات الأخيرة. رغم بعض التعثر والأخطاء، نجح المعرض الذي تنظمه وكالة وزارة الإعلام للشؤون الثقافية في التحول إلى رافعة لتطوير الحياة الثقافية الباهتة طوال السنة، ومحفزاً على تعزيز أجواء التنوع الفكري والثقافي داخل المجتمع السعودي.
أما الدورة الحالية، فيمكن اختصار قصتها في أمرين أساسيين: مجموعة من قرارات المنع الرقابي، تُنتج قرارات مقاطعة من بعض المثقفين، قبل أن تأتي «غزوة المحتسبين» في اليوم الأول لتؤدّي إلى وأد المعرض في مهده. أجواء استمرّت طوال أيام المعرض الذي يختتم في 11 آذار (مارس) الجاري، لتكون المحصلة فشل التظاهرة، وتراجعاً ضخماً عن السنتين الماضيتين. لم تشمل قرارات المنع هذه السنة مجموعةً من الكتب لأدباء سعوديين وعرب فقط، بل تعدّت ذلك إلى سابقةٍ خطيرة بمنع «دار الجمل» من الحضور بين أجنحة المعرض. تذرعت إدارة المعرض بضيق المساحة، فما كان من الدار إلا أن أصدرت بياناً شديد اللهجة ضد المنظّمين (راجع الإطار).
ومما يزيد من حجم الخيبة، أن برنامج المعرض الثقافي كان يعدنا بموسم غنيّ. للمرة الأولى منذ سنوات ربّما، أعلنت أسماء مهمة وجدلية على الساحة الثقافية السعودية، وندوات ذات عناوين جدلية أيضاً. كان من الواضح أن البرنامج سيعوّض غياب السنوات الماضية بمادة دسمة. لكنّ المواعيد المثيرة للاهتمام اختفت فجأة. أُلغيت مثلاً ندوة «الثقافة والفضائيات» لمجموعة من الإعلاميين، وكذلك ندوة العالم المصري أحمد زويل، وندوة عن التغيير الثقافي والاجتماعي في الخليج بمشاركة تركي الحمد ومحمد الأحمري وباقر النجار (البحرين) وموزة غباش (الإمارات). المشاركون في هذه الندوات، صرحوا بأنهم أُبلغوا بالمنع من دون إبداء أسبابه. لكن التحليلات تذهب إلى الربط بين المنع ومشاركة المذكورين في توقيع البيانات الإصلاحية الأخيرة. إذ إنّ علي الظفيري، ومحمد الأحمري، وتركي الحمد من الموقعين على بيانات الإصلاح.
من ناحية أخرى، قد يكون المنظّمون ألغوا حديث الدكتور زويل، خشية تطرقه إلى موضوع التغيير في مصر بعد الثورة. بدا واضحاً قرار إفراغ البرنامج من أي إشارة أو نافذة على ما يجري اليوم في العالم العربي وآثاره الحاضرة والمستقبلية.
إلغاء الندوات أعقبه اعتذار قاسم حداد عن عدم المشاركة، والموقف الأهم كان لعبد الله الغذامي الذي رفض صراحةً الوقوف على منصة تستبعد الآخرين. هكذا، ألغيت ندوة الناقد والأكاديمي لأنّه آثر الانتصار للتعددية الثقافية، في موقف يستحق الإشادة. وأشار الغذامي بوضوح إلى أن المنع لم يكن من إدارة المعرض، ولا من وزارة الثقافة والإعلام، موضحاً أن المسألة «غامضة». أما غزوة المحتسبين فقد كانت مفاجأة المعرض الكبيرة، إذ زرعت الفوضى والرعب في صفوف الزائرين والزائرات. وهذه الهجمة سابقة لم تحدث في الدورات الماضية، ما يطرح علامات الاستفهام حول أسباب العودة القوية والمتخطية للخطوط الحمر لجماعات المحتسبين، خصوصاً أنّ وزير الإعلام ذاته عبد العزيز خوجة كان من ضحايا هذه الهجمة شكلاً ومضموناً. وإذا كانت إدارة المعرض بعقليتها التقليدية، قد أسهمت في تراجع هذه التظاهرة، فإن جهات محافظة نافذة أرادت القيام باستعراض قوة لتخريب المعرض. وقد استخدمت هذه الجهات المحتسبين السلفيين لتحقيق أهداف عدة، أبرزها رصّ الصفوف السلفية في وجه رياح التغيير التي تعصف بالمنطقة. ومن خلال هذا السلوك العنجهي، تؤكد ثباتها في وجه العاصفة، واستمرار التعاطي الرجعي مع المتغيرات، إضافةً إلى إعادة إشغال الناس بالصراعات الفكرية المبتذلة، لإلهائهم عن متابعة الأوضاع العربية المتغيرة والنقاش المحلي القائم حول مستقبل البلاد، وأهمية البدء بإصلاحات حقيقية وجذرية فيها. ما زالت العقلية الرجعية تستخدم أدواتها القديمة ذاتها في التعاطي مع المتغيرات الجديدة في الداخل والخارج. لكنّ هذا كله لم يمنع الناس من التدفق إلى أجنحة المعرض، والإفادة مما هو متاح من كتب وأفكار وتحدي سياسات المنع والإلغاء والحجر على حرية الحركة. معرض الكتاب يتراجع بفعل هجمات تستهدف تثبيت سياسات العزل والحجب والمنع. لكنّ هذه الهجمات لن تؤتي ثمارها، في ظل وعي يتنامى من أجل الخروج من زنازين القرون الوسطى.

حتى 11 آذار (مارس) الجاري ـــــ «مركز الرياض الدولي للمعارض»
www.riyadhbookfair.org.sa



«دار الجمل»: انفتاح للتصدير!

بعد منعها من المشاركة في أجنحة «معرض الرياض الدولي للكتاب»، أصدرت «دار الجمل» بياناً تفضح فيه العقلية الرقابية التي تقف خلف هذا القرار. ولفتت الدار إلى أنّها حين كانت تواجه إدارة المعرض «بمفاهيم تقوم عليها السياسة المعلنة للمملكة مثل: مملكة الإنسانية أو حوار الأديان، فإنها تبرطم كأنها تريدنا أن نفهم أن هذه الشعارات هي للتصدير وليست للاستهلاك المحلي». ولم تنته اتهامات «الجمل» عند هذا الحد، بل تجاوزتها للقول بأنّ إدارة المعرض تعاني «فوبيا» الكتب الأكثر مبيعاً، وكلما وجدت إقبالاً على كتاب منعته بحجج واهية.
التعنّت الرقابي تجاه «الجمل» دفع عبده خال إلى التضامن مع الدار التي تنشر رواياته، وإعلان مقاطعة المعرض. وقد أعلن الروائي السعودي غضبه من أجواء الرقابة المسيطرة على التظاهرة التي تحجر على المثقفين والثقافة.