عندما توفي إريك رومير في 11 كانون الثاني (يناير) من العام الماضي، ارتقب الجميع ردّ فعل زميله القديم جان ـــــ لوك غودار. جاء الردّ سينمائياً بعد أيام. أنجز غودار فيلماً قصيراً بعنوان «تحية إلى إريك رومير». نسمع صوت غودار يتلو عناوين مقالات نقدية لرومير، ويتذكر زمن العمل المشترك. «كانت أسعد أوقات حياتنا»، يقول صاحب «الاحتقار». أحدثت وفاة صاحب «الشعاع الأخضر» (١٩٢٠ ـــــ ٢٠١٠) صدمة لمحبّي السينما، وخصوصاً «الموجة الفرنسية الجديدة»، قبل أن يلتحق به زميله كلود شابرول في العام نفسه، فلا يبقى من رواد الـ Nouvelle Vague سوى غودار وجاك ريفيت.تحتفي جمعيّة «متروبوليس» ابتداءً من اليوم، بالتعاون مع «البعثة الثقافية الفرنسية» في بيروت، بالمعلّم الفرنسي الذي يعدّ شاعر السينما بامتياز. عشرة أفلام 35 ملّيمتراً من إرثه الغزير والفريد، يتاح للجمهور اللبناني اكتشافها، ضمن تظاهرة «حكايا إيريك رومير».
بدأ صاحب «الحب بعد الظهر» مشواره مبكراً. قبل أن يصير سينمائياً محترفاً، عمل في النقد، وأسهم في إطلاق «جريدة السينما» La Gazette Du Cinéma عام 1950، بعدما عمل في التدريس والصحافة والأدب. لاحقاً تولّى مسؤولية المحرر الرئيسي في مجلة «دفاتر السينما» الشهيرة، وكتب فيها إلى جانب زملائه ريفيت وغودار وشابرول وفرنسوا تروفو. ومثل زملائه في «الدفاتر»، لكن متأخّراً عنهم، حمل الكاميرا ليصير أحد أبرز وجوه الموجة الجديدة وسينما المؤلف.
أخرج رومير باكورته الروائية «برج الأسد» (1959 ـــــ الليلة) بإنتاج كلود شابرول. يختلف هذا العمل في أسلوبه عن أعمال رومير اللاحقة. الفشل التجاري الذريع لشريطه الأول هذا، دفعه إلى الابتعاد عن الأفلام الروائية لثماني سنوات.
يمكن تقسيم أعمال إريك إلى ثلاث مراحل رئيسة، أولاها أطلقت سمعته عالمياً، وهي سلسلة «ست حكايا أخلاقية» التي بدأها عام 1963 بفيلمه القصير La «صاحبة الفرن في مونسو» تلاه «مهنة سوزان» في العام نفسه، ليعود إلى الأفلام الطويلة في «هاوية التجميع» (1967 ـــــ غداً)، و«ليلتي عند مود» (1969ـــــ 9/2)، و«ركبة كلير» (1970 ـــــ 10/2)، و«الحب بعد الظهر» (1972، 11/2).
بعد هذه «السداسية»، أنجز سلسلته «كوميديا وأمثال». هنا، بنى كل فيلم على مثل شعبي شائع، وسيعرض منها «بولين على الشاطئ» (1983 ـــــ 13/2)، و«ليالي البدر» (1984 ـــــ 14/2)، و«الشعاع الأخضر» (1986 ـــــ 15/2) الذي حاز أسد «مهرجان البندقيّة» الذهبي. مطلع التسعينيات، بدأ سلسلته الثالثة «حكايا الفصول الأربعة» التي تتكون من أربعة أفلام، يعرض منها «حكاية الشتاء» (1992 ـــــ 16/2). هذا إلى جانب عرض أفلام أخرى متفرقة مثل «بيرسوفال، ابن بلاد الغال» (1978 ـــــ 12/2) الذي يعدّ أفضل أعمال رومير السينمائية، وهو في الآن نفسه أبرز إخفاق تجاري له.
يصف بعضهم لغة رومير السينمائية بالصعبة. تحتاج أفلامه إلى نوع من الصبر لمشاهدتها. يركز عادة على شخصيات فرنسية مثقفة من الطبقة الوسطى. سينما إريك رومير هي دراما وكوميديا مشبعة بالحوارات غير المنتهية في الحب والعلاقات والجنس التي يستكشفها باحترافية عالية. أفلامه هي شخصياته المضطربة بين أحلامها وأفعالها، تحددها بيئة حوارية، بإطارات فلسفية، تغرق في استكشاف الجانب النفسي للرغبة في المجتمع الفرنسي. يبتعد رومير عن المبالغة في استخدام الموسيقى، وإن كان يهتم بجماليات الطبيعة سينمائياً. إلا أن الطبيعة تستخدم كخلفية لحوارات الشخصيات وطبيعة تحركاتها وتنقلاتها، فهو يعدّ الحوار، كالصورة، جزءاً رئيسياً من الفيلم.
يفضّل المعلّم الفرنسي «الأفكار على الأفعال»، لذا تختلف ثوريته السينمائية عن زملائه الآخرين في الموجة الجديدة. غالباً ما كان يشدد على ارتباط أعماله الوثيق بالأدب، وخصوصاً الروائي. لهذا، يصف بعضهم أفلامه بالجافة والمملة. حتى إنّه في مشهد شهير من فيلم «الليل يتحرك» (1975) للسينمائي الأميركي الراحل آرثر بن (1922 ـــــ 2010)، نسمع هاري موسبي (جين هاكمان) يقول: «شاهدت مرة فيلماً لرومير، كأني كنت أراقب الطلاء يجف».
يمكن مقارنة شخصيات هذا السينمائي بشخصيات بيرغمان مثلاً، إلا أنّنا نقارن هنا بين كاثوليكية الأول وشك الثاني. فيما يبحث رومير عن العلاقة بين شخصياته وعن الإغراء، سواء في محاولة تجنّبه أو الوقوع فيه، يلف بيرغمان شخصياته بالقلق الوجودي والخوف والتساؤل والشك. وفيما يظهر بيرغمان الغموض كمسألة تعاني منها شخصياته في آلامها الوجودية، يغلّف رومير شخصياته بالغموض خارجياً، فيخفي عنا الكثير من الأسباب وطبيعة العلاقات.
سينما رومير تحتفي بالإنسان في النهاية، وتأتي معالجته لقضايا العلاقات والجنس انطلاقاً من أهميتها في التعبير عن المكنونات البشريّة. بتركيزه على مسائل الارتباط والتعايش، يوثّق رومير الحياة سينمائياً... ويقترب من الواقع أكثر.

«حكايا إريك رومير»: الثامنة، ابتداءً من الليلة، حتّى 16 الحالي ـــــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (بيروت). للاستعلام: 01/204080