«الشعب يريد إسقاط النظام»، صرخة مدوّية انطلقت من الحناجر مباشرةً بعد انتهاء صلاة الجمعة في جامع مصطفى محمود في المهندسين، إيذاناً بانطلاق مسيرة 28 يناير. الآلاف يتّجهون إلى شارع البطل أحمد عبد العزيز التجاري. كتيبة من جنود الأمن المركزي إلى اليمين وأخرى إلى اليسار، لكنّ عددهم أقل بكثير من المتظاهرين. في منتصف الشارع أرى رجلاً كبير السن ممسكاً بسجادة صلاة، يخاطب ضابطاً: «يلا الحقوا نفسكم وخشّوا مع الشعب، النظام وقع خلاص». على جانب الطريق، شاب يفتح حقيبته ويوزع عشرات الأقنعة للوقاية من الغاز المسيّل للدموع. بعد خطوات، ألمح الممثّل خالد الصاوي يهتف وسط الشباب، سعيداً: «لطالما انتظرت هذا اليوم». خالد النبوي موجود أيضاً، لكنّه يقف على جانب الطريق مع اثنين من رفاقه. التظاهرة تتقدّم سريعاً. كتيبة الأمن المركزي تصعد كوبري السادس من أكتوبر، لكنّ الناس يتجهون نحو الدقّي تحت الكوبري. سيّدات كبيرات، عائلات بأطفالها. الشرفات ملأى بأناس يُخرجون العلم المصري، وآخرين يشيرون بعلامة النصر. على جانبي الطريق، يقف البعض بأكياس البصل والخل لمواجهة آثار القنابل المسيلة للدموع. آخرون يوزعون زجاجات المشروبات الغازية، وقوارير المياه المعدنية. التظاهرة تتقدّم بخطوات سريعة: «ضمّوا، لحسن يفرّقونا». فرح وقلق في آن. قوات الأمن المركزي تنتظر على كوبري الجلاء، بالقرب من فندق شيراتون. لا تريد للمتظاهرين الالتحاق بغيرهم الآتين من العباسية ومدينة نصر ومناطق أخرى. قنابل الغاز، كرّ وفر، إحساس بالاختناق والغثيان لا يطاق، لكن الشباب لا يتراجعون، بالعكس.
بعد فترة وجيزة، نرى سيارة أمن مركزي تحترق أمام الكوبري. عربات الإسعاف تدخل وسطنا مرةً واثنتين وثلاثاً وتعود لإخراج الجرحى. وفجأةً، صرخة: «عدّوا!» نصل إلى مكان المعركة. الشارع فارغ ولم نعد نعرف أين ذهب المتظاهرون. نعود أدراجنا لنتصل بذوينا القلقين لكن الشبكات الخلوية مقطوعة. ندخل متجر ورد في شارع التحرير، لإجراء المكالمة من الهاتف الأرضي. الشاب يرفض أن ندفع ثمنها ويعرض علينا كوب شاي. نوافق، فرحين بهذه الاستراحة. كل خمس دقائق، يدخل أحد ليجري اتصالاً. شاب محامٍ يغتاظ من مشهد البرادعي خائفاً من الخروج من الجامع. «يعني نكون بايتين في الشارع بقى لنا أربعة أيام، وييجي هو من فيينا يركب الموجة؟».
في الخارج، لا تزال التظاهرات تأتي من بولاق الدكرور والدقي والمهندسين. ننضم إليها من جديد، فرحين، غير مصدّقين أن شعار «باااااااااااااااااااااطل» الذي كان يردّده في الماضي ألف متظاهر يحاصرهم عشرة آلاف جندي أصبح شعار الملايين. عند عودتنا إلى البيت، نصدم بمشهد مختلف من الوجوم: «ماذا تفعلون في الشوارع حتى الآن؟ فُرض حظر التجول منذ السادسة مساءً».
في ميدان التحرير في الأيام التالية، لا أثر لكل هذا التوتّر. مهرجان الثورة الكبير منتعش ومبهج: «عنواني ميدان التحرير حتى يرحل الخنزير»؛ و«لوج، دوف: ارحل بالنوبي».
أناس اجتازوا الحواجز الطبقية، يتقابلون للمرة الأولى، ويكتشفون أنهم يتقاسمون الأهداف نفسها. موظّفون وطلاب، علماء من الأزهر وقساوسة، يساريون، شباب رِوِش لم يشارك في أيّ تظاهرة قبلاً، سيّدات منقّبات، أب مصري وأم بريطانية مع أولادهما. التوتّر موجود، أي نعم ـــ تحليق طائرتين قتاليتين في السماء يوم 30 يناير ـــ لكنها لحظات عابرة.
في أغلب الوقت، مجموعات من الشباب تحمل كراتين لجمع القمامة ثم يلقونها في عربة شرطة محترقة وسط الميدان، قرب جامع عمر مكرم. في 1 فبراير، يوم تظاهرة المليون، لم يعد ممكناً تقدير عدد الوافدين. نُصبت مشنقة لحسني مبارك وحبيب العادلي في الميدان. القاعة الرئيسية لجامع عمر مكرم مليئة برجال نائمين وهناك من ينتظر دوره في الخارج. صخب هائل، لكنّ التنظيم محكم. أمام حمّام السيّدات، طابور طويل ومناقشات محتدمة.
امرأة تعبّر عن تحفّظها عن «سبّ الرئيس»؛ البعض يوافقها والكل يذكّرها بمسؤوليته عن كوارث البلاد، من عبّارة السلام، وانهيار صخرة الدويقة في المقطّم، إلى التعذيب في أقسام الشرطة. تتحمّس امرأة ترتدي إسدالاً كاملاً، قد تكون منتمية إلى «الإخوان المسلمين». تقدِّم نفسها على أنّها مهندسة. الكل يتحدّث بحرية. عند مغادرة الميدان، نلتقي عائلة صغيرة، الأب والأم وطفليهما، تنوي العودة سيراً حتى أواخر ضواحي شارع فيصل. طابور بشريّ طويل أمامنا يمتدّ حتى الجيزة والدقّي يستعد لقطع مسافات تزيد على خمسة عشر كيلومتراً.
قبل أسد كوبري قصر النيل، يقف رجل يحمل لافتة تقول «كنت خايف، بقيت مصري». يحيّيه المتظاهرون قبل أن يبدأوا رحلة السير الطويلة، مؤكّدين أنّهم سيعودون في الأيام القادمة حتى يتنحّى من خرّب البلاد.